لطالما أتقن الإنسان الربط بين ما يدور حوله من أحداث ومستجدات، لتمتد هذه المهارة بأذرعها الأخطبوطية نحو ما هو أبعد، حيث يجد العقلُ البشري خلال جولاته وصولاته التي يسعى من خلالها للاستزادة المعرفية والسعة الثقافية، العديد من الحقائق والقضايا، بل والمفردات والتراكيب التي تجتمع عند مورد واحد، ولا يكاد يميز أحدها عن الأخرى، سوى ببضع ملامح غائرة.
ومن المفاهيم التي تتلاقى في رحلة «صيد المعرفة»، تلك التي تدعى «الخيال» و«التصور»، حيث تبدو بشكل سطحي وأولي وكأنها تعبر عن الدلالة ذاتها، بينما يتعلق كل منهما بمدلول مختلف تماماً. فأما الخيال، فهو اللفظ الذي يشير ببنانه نحو تلك القوة الكامنة العقلية التي تسمح للإنسان بالدخول في عالم افتراضي يمتلك فيه أدوات وإمكانيات تشكيل الصور والأفكار بحلة مفارقة لما هي عليه في الواقع. ومن الجدير بالذكر أن الخيال يسمح بتحليق فكري بعيد المدى لا تحدده أي محددات، ولا يقف أمامه أي «تصور»، وهو «يشطح» للمستقبل أكثر من الواقع المعاش.
ومن هنا تأتي ضرورة فهم ما يعنيه «التصور»، حيث يدل على مساحة فكرية حركية وفعالة، مملوءة بما يتخيله الإنسان من أحداث وأشياء، لكنها تكون محددة، وبالتالي فإن التصورات تحتاج لـ «أرضية تأسيسية» تتمثل في «أسوار» يعبر عنها بالمعلومات المتوفرة، متكئةً على مهارات الباحث نفسه، من قدرة على النقد والتحليل وتفكيك الأفكار وإعادة تصورها من خلال عمليات فكرية دقيقة، وبالتالي فإن التصور يلامس الواقع والمستقبل الإنساني، مقدِّماً حلولاً واستشرافات من خلال هذه الجولة المعرفة الفكرية المتفاعلة.
والسؤال الذي يَطرح نفسَه في هذا السياق: كيف تمكن الاستفادة من نقاط التشابه والاختلاف فيما بين الخيال والتصور، في مجال إنتاج المعرفة، تلك المعارف التي تنتمي لحقل الإبداع والابتكار، والتي تدخل في تصنيف الإصلاح وإعادة القراءة المتأنية الهادفة للنقد من أجل التقويم اللاحق للتقييم، لا الانتقاد والوقوف هناك.
وإذا ما علمنا أن التصور هو المفتاح الصحيح الذي يساعد في تكييف شمولية عنان الخيال، مما يسمح بالدخول في تطور يمكن تسميته «إدارة الخيال»، حيث إن الخيال على ما يضم من إيجابيات وفتح مجالات جديدة للإبداع والابتكار، إلا أنه يظل دائماً بحاجة لتصورات قريبة من الأدوات الواقعية التي من شأنها تحويل التصور إلى إنجاز حقيقي يستفاد منه. وثمة الكثير من السياقات التي تثبت صحةَ ذلك، حيث يقوم التصور بتوسيع الأفق حين يجد أن الفكرة النابعة من الخيال قريبة للأدوات المتاحة في الواقع، مما يعني الاسترسال في عملية الخيال المصنَّفة تحت إدارة التصور الموضوعي. كما يعني ذلك المران الفاعل للعقل الإنساني على كل من مهارات التفكير النقدي والتحليل التي تضع معطيات الخيال في كفة قياس مدى صحتها وقدرتها على تحسين الواقع الإنساني. وبالتالي فإن التصور يعبر عن بطاقة المرور التي تسمح بتحويل التموقع الخيالي من الافتراض المنتشر في مكان غير معروف، انتقالاً به إلى أرضية التجربة والتخطيط من خلال إدراجه في استراتيجيات واقعية من شأنها أن تأخذ بيد الإنسان نحو المزيد من امتلاك المهارة، سواء أكان ذلك على صعيد المهارات العقلية أم المهارات الإبداعية المتجددة.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة