تعد الضرائب أداة مركزية مهمة، وهي معتمدة منذ قرون، وقد اتخذت أشكالاً متعددة، إلا أنها تطورت في العصر الحديث لتشمل مختلف مناحي الحياة والأنشطة الاقتصادية، ما أدى إلى زيادة تأثيراتها على النمو والأنشطة الاقتصادية، طبقاً للسياسة الضريبية لهذا البلد أو ذاك، فساهمت في انتعاش بعض الدول وانحسار الأعمال في دول أخرى.
ومع تعقد الأوضاع الاقتصادية، وزيادة التزامات الدول، وزيادة إنفاقها العام، ابتكرت أنواع جديدة من الضرائب، باعتبارها أسهل وسيلة لتغطية الإنفاق المتنامي، مع تجاهل التداعيات السلبية لهذا التوجه ومحاولة البحث عن وسائل أخرى تتعلق بزيادة الاستثمار وتنمية الموارد.
وفي الآونة الأخيرة يلاحظ تنامي الضرائب بصورة مفرطة في بعض الدول الأوروبية، وذلك بعد الزيادات الحادة في الإنفاق الناجم عن العديد من العوامل والتطورات المحلية والخارجية، حيث أدى ذلك إلى خروج الكثير من المستثمرين ورجال الأعمال، بعد أن أرهقتهم الضرائب التي وصلت إلى 45% على الدخل، وذلك إضافة إلى الالتزامات الأخرى، كالتأمينات الاجتماعية والسكن والتي تستقطع نسباً عاليةً من الرواتب والأجور، بل إنها طالت في الفترة الأخيرة المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة.
ويرجع أحد الأسباب إلى جوانب انتخابية، وهو ما يضر بالاقتصاد، إذ لا يمكن أن تتحول هذه الإداة لصراعات انتخابية مضرة، فمن أجل إرضاء الشارع يلجأ بعض المرشحين إلى فرض ضرائب عالية على الشركات ورجال الأعمال، وفي المقابل يحاول مرشحون آخرون إرضاء الشركات الخاصة بتخفيض الضرائب، إلا أن الاتجاه العام يميل نحو الزيادة بحكم أن معظم الناخبين من الفئات التي تعتبر أقل تضرراً من الضرائب المرتفعة.
ونظرياً تعتبر الضرائب المبالغ فيها مخالفةً لأفكار معظم علماء الاقتصاد، باعتبارها طاردةً للمستثمرين، حيث يؤكد ابن خلدون، أحد أبرز علماء عصره ومؤسس علم الاجتماع السياسي أن الضرائب تحقق عائداً أكبر في حال خفضها، لهذا يدعو إلى اتباع سياسة الحكمة في إنفاق المال العام وترشيده بدلا من الضرائب العالية والتي تساهم في انكماش الأنشطة الاقتصادية، وتؤدي إلى الهروب للخارج. أما آدم سميث فيذكر في مؤلفه القيِّم «ثروة الأمم» أن «الضرائب تحقق أهدافها في حالة ما إذا لم تكن اعتباطية»، وهو يدعو إلى «ضرورة تبني سياسة ضريبية تخفف العبء على الناس والشركات، مضيفاً أن الضرائب المرتفعة تثني عن الاستثمار وتؤدي إلى تآكل الأرباح وترفع التكلفة».
وما ذكره ابن خلدون وآدم سميث يتحقق الآن في بعض الدول الغربية، حيث يلاحظ نزوح أعداد من الشركات ورجال الأعمال للخارج، وبالأخص إلى دول مجلس التعاون الخليجي وسنغافورة، حيث تنخفض نسب الضرائب، وتميل إلى الاعتدال.
صحيح أن معدلات الإنفاق ترتفع بصورة كبيرة في الغرب، إلا أن معالجة ذلك من خلال الضرائب فقط تعد حلولاً غير حكيمة، وستزيد الطين بلةً بسبب هروب رؤوس الأموال، وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة وازدياد طلبات الإعانات الاجتماعية، والتي تستدعي اعتمادات إضافية في الميزانية، حيث بلغت نسبة طالبي الإعانات الاجتماعية في بعض الدول الأوروبية مؤخراً 30% من حجم القوى العاملة، وهي نسبة كبيرة ومكلفة.
وللخروج من هذا المأزق، يمكن فصل السياسة الضريبية عن الإدارات الرسيمة، كالوزرات، وبالتالي عن الحملات الانتخابية، وتكليف مؤسسات مستقلة لإدارة السياسات الضريبية. فالسياسة النقدية على سبيل المثال يطلع بها البنك المركزي الذي يتمتع باستقلالية عن الجهاز الحكومي في الغرب، وبالتالي فالسياسات النقدية تعتبر أكثر اتزاناً ومهنيةً وبعداً عن الرغبات الانتخابية.
وحتى ذلك الحين، فإن على دول مجلس التعاون الخليجي، وسنغافورة وبعض دول الكاريبي، أن تستعد لاستقبال المزيد من المستثمرين الهاربين من جحيم الضرائب المرتفعة المفروضة، ليس على الشركات والمؤسسات فحسب، وإنما على الأفراد أيضاً.
وبشكل عام، فإن الضرائب مسألة مهمة ومطلوبة، وهي أداة ضرورية لدعم ميزانية الدولة والإنفاق الاستثماري وتطوير البنى التحتية، وحساب العديد من المؤشرات الاقتصادية بدقة، إلا أنها لا بد أن تكون معتدلةً ومناسبةً، وتخدم النمو الاقتصادي بدلاً من عرقلته.

*خبير ومستشار اقتصادي