البند الثالث في برنامج الحزب «الجمهوري» لعام 2024، بعد الوعود بإغلاق الحدود والقيام بعمليات ترحيل جماعية، هو التعهد بـ «إنهاء التضخم، وجعل الأسعار في أميركا في متناول الجميع مرة أخرى». فيما يتعلق بالجزء الأول من هذا التعهد، لا أعرف ما إذا كان القائمون على صياغة البرنامج، الذين يبدو أنهم نسخوا ولصقوا بنوده من منشورات دونالد ترامب على موقع «تروث سوشيال» Truth Social، يدركون أن التضخم قد انخفض بالفعل.
لكن الجزء الثاني أكثر إثارة للاهتمام. ماذا يقصدون بجعل الأسعار في أميركا في المتناول مرة أخرى؟ استناداً إلى التفسير، إما أن يكون هذا شيئاً قد حدث بالفعل، أو فكرة سيئة حقاً. فيما يتعلق بالتضخم، أتلقى العديد من التعليقات التي تقول إنه مهما كانت الإحصائيات الرسمية، فإن الأميركيين لا يتوقعون انخفاض التضخم. ومع ذلك، فإن مثل هذه الادعاءات حول التصورات العامة خاطئة.
وتُظهر الاستطلاعات التي تسأل الأميركيين عن مدى توقعهم لارتفاع الأسعار خلال العام المقبل، انخفاضاً حاداً في توقعات التضخم، ليعود تقريباً إلى ما كان عليه في الفترة 2018-2019. لذا، فإن الأميركيين يعرفون أن التضخم المعدل الذي ترتفع به الأسعار في انخفاض كبير.
الحقيقة هي أننا شهدنا موجة من التضخم في الفترة 2021-2022، مما جعل مستوى الأسعار أعلى بكثير مما كان عليه قبل بضع سنوات. الدولار لا يشتري بقدر ما كان عليه من قبل. ومن ناحية أخرى، يحصل العمال الأميركيون على المزيد من الدولارات: فقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً في الأجور وكذلك في الأسعار. إذن، هل أصبحت أميركا مكلِّفة؟ في الحياة الطبيعية، عندما نسأل أنفسنا عما إذا كنا قادرين على شراء شيء ما، فإننا نقارن سعره بالدخل الذي نحصل عليه.
وإذا استخدمنا معيار الحياة الطبيعية هذا، نجد أن الأسعار في أميركا أصبحت الآن في متناول الجميع أكثر من أي وقت مضى، فقد تجاوزت الزيادات في أجور أغلب العمال على مدى السنوات الخمس الماضية الارتفاع في أسعار المستهلك. لكن الكثير من الناس ينزعجون، بل ويغضبون، إذا أشرت إلى ذلك. هذا ليس مفاجئاً حقاً. تؤكد الأبحاث الحديثة ملاحظة قديمة مفادها أن قِلة قليلة من الناس يفكرون في التضخم باعتباره عملية تؤدي إلى رفع الأسعار والأجور.
ولكن، بدلاً من ذلك، يعتقد أغلبهم أن التضخم استهلك أي زيادات في الدخل حصلوا عليها. فهل يقول الأشخاص الذين صاغوا البرنامج «الجمهوري» إننا يجب أن نحاول عكس اتجاه ارتفاع الأسعار بعد الوباء؟ أعتقد أنهم لم يفكروا في الأمر.
لكنني أعتقد أن الأمر يستحق التطرق إلى الأسباب التي تجعل أي خبير اقتصادي يعتقد أن محاولة عكس التضخم السابق، بدلاً من السيطرة على التضخم في المستقبل - وهو ما قمنا به بالفعل بشكل أو بآخر - ستكون فكرة جيدة. الأمر هو أن إعادة الأسعار إلى ما كانت عليه في عام 2019، على سبيل المثال، ستتطلب وضع الاقتصاد الأميركي خلال نوبة كبيرة من الانكماش - انخفاض الأسعار.
والأدلة التاريخية واضحة: إن فرض انكماش كبير على الاقتصاد الحديث يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة. معظم هذه الأدلة التاريخية قديمة جداً. وبعيداً عن اليابان، التي تُعَد حالة خاصة قد يستغرق شرحها وقتاً طويلاً، فإن الانكماش كان نادراً للغاية في الاقتصادات الحديثة منذ الحرب العالمية الثانية.
ولكن قبل الحرب، كانت هناك بعض الفترات من الانكماش. شهدت الولايات المتحدة انكماشاً حاداً بعد الحرب العالمية الأولى وانكماشاً هائلاً في السنوات الأولى من أزمة الكساد الأعظم. لا شك أنك تعلم ما حدث أثناء أزمة الكساد الأعظم، ولكن حتى بعد الحرب العالمية الأولى كان هناك ارتفاع كبير، ولو مؤقتاً، في معدلات البطالة كنسبة من القوى العاملة في مجالات غير الزراعة. والمثال الأكثر أهمية هو بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين. مثل العديد من الدول، خرجت بريطانيا عن معيار الذهب خلال الحرب العالمية الأولى وشهدت تضخماً كبيراً.
ومع ذلك، بعد الحرب، قرر وزير الخزانة آنذاك - ونستون تشرشل - ليس فقط استعادة معيار الذهب، ولكن أيضاً استعادة قيمة الجنيه الإسترليني مقابل الذهب (القيمة الذهبية للجنيه الإسترليني) قبل الحرب. لقد رفض الحجج القوية التي ساقها الاقتصادي «جون ماينارد كينز» بأن هذه فكرة رهيبة، وهي الحجج التي عرضها كينز في مقال كلاسيكي بعنوان «العواقب الاقتصادية للسيد تشرشل».
وكان كينز على حق. إن العودة إلى القيمة الذهبية القديمة للجنيه الإسترليني كانت تتطلب في الواقع جعل الأسعار في بريطانيا في متناول الجميع مرة أخرى - وهذا يعني وضع بريطانيا في فترة طويلة من الانكماش.
ونتيجة لذلك، فبينما كانت أميركا تمر بفترة العشرينيات الهادرة (يُشير مصطلح العشرينيات الهادرة إلى فترة عشرينيات القرن الماضي في المجتمع الغربي المتقدم والثقافة الغربية، والتي تميزت بالرخاء الاقتصادي مع تحول ثقافي مميز في الولايات المتحدة وغرب أوروبا)، ظلت بريطانيا تعاني من الكساد المستمر. لماذا يصعب تحقيق الانكماش؟ السبب الأكثر أهمية هو أن أي انخفاض كبير في الأسعار يتطلب أيضاً انخفاضاً كبيراً في الأجور ومن الصعب للغاية خفض الأجور، حتى لو لم يكن العمال منتسبين إلى نقابات.
وأوضح الخبير الاقتصادي «ترومان بيولي» السبب في كتابه «لماذا لا تنخفض الأجور خلال فترة الركود»، استناداً إلى مقابلات مع مئات من قادة الأعمال والعمال. وفي الأساس، اتفق الجميع على أن خفض الأجور من شأنه أن يلحق الضرر بمعنويات العمال، وأن تكاليف هذا الضرر الذي يلحق بالروح المعنوية ستفوق التوفير في التكاليف إلا في الظروف القاسية. وعلى هذا فإن الأجور، وبالتالي الأسعار، تميل إلى إظهار «صلابة اسمية هبوطية».
الاستثناءات تثبت القاعدة. والمثال الأكثر وضوحاً للانكماش هو اليونان، التي اضطرت، بسبب مزيج من أزمة الديون وعضويتها في منطقة اليورو، إلى الانخراط في «خفض قيمة العملة داخلياً» - خفض الأجور والأسعار لاكتساب القدرة التنافسية ضد جيرانها.
والواقع أن اليونان حققت تخفيضات كبيرة في الأجور، ولكن فقط على حساب معدلات البطالة المرتفعة بشكل لا يصدق. وبالمناسبة، يفسر هذا المنطق نفسه سبب حدوث موجة من التضخم مع تعافي الاقتصاد من جائحة فيروس كوفيد-19، إذ أدت الآثار المتبقية للوباء إلى اضطرابات واسعة النطاق - سلاسل التوريد المنهكة، والتحول الكبير نحو العمل عن بعد، وغير ذلك الكثير. وأدت هذه الاضطرابات إلى زيادات كبيرة في بعض الأسعار.
وكان تجنب الارتفاع في متوسط الأسعار ليتطلب تخفيضات كبيرة في الأسعار في أجزاء أخرى من الاقتصاد، ويكاد يكون من المؤكد أنه كان ليتطلب ارتفاع معدلات البطالة. يمكن القول إن السماح بحدوث موجة تضخم لمرة واحدة، ثم تثبيت معدل التضخم اللاحق، كان السياسة الصحيحة - وهذا ما فعلناه بشكل أو بآخر. فهل يمكننا إذن أن نجعل الأسعار في أميركا في متناول الجميع مرة أخرى، بمعنى إعادة الأسعار إلى ما كانت عليه قبل الوباء؟
من المؤكد تقريباً أنه لا، ولا ينبغي لنا أن نحاول. كان من المهم ألا يترسخ التضخم في الاقتصاد، وهو ما لم يحدث. وبدلاً من ذلك، يبدو أننا حققنا ما اعتبره كثيرون مستحيلاً: الهبوط الناعم الذي يجمع بين انخفاض التضخم وانخفاض معدلات البطالة.
بول كروجمان*
أكاديمي أميركي حائز جائزة نوبل في الاقتصاد.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»