يطرح أستاذ التاريخ في جامعة نيويورك «جوشوا فريمان» السؤال التالي: كيف يمكن أن يوازن الإنسان بين التنمية الاقتصادية والجشع؟ بين الفوائد الاقتصادية والإساءة إلى البيئة؟ ويُنسب إلى المهاتما غاندي قوله إن الكرة الأرضية تستطيع أن تقدّم للإنسان كل ما يحتاجه، لكنها لا تستطيع أن تقدّم له كل ما يطمع بالحصول عليه.
وعودةً إلى فريمان فهو يَعتبر أن تاريخ المصانع الكبيرة هو تاريخ الإنسانية في العصر الحديث، ذلك أن النمو الذي تحقق بفضل الصناعة لم يكن مجرداً من الآثار الجانبية التي تهدّد سلامة الإنسان والبيئة على حدّ سواء. إن كل ما تمسك به يدنا اليوم هو إنتاج صناعي، من أدوات الطعام إلى الفراش، ومن البيت إلى المكتب والطريق ووسيلة الانتقال. لا زراعة من دون أدوات صناعية لإصلاح الأرض ونثر البذور.
وما كان يمكن كتابة هذا المقال دون صناعة القلم وصناعة الورق وصناعة المطبعة، وما كان ليصل إلى يد القارئ من دون صناعة السيارة وأدوات النقل الأخرى.
استخراج النفط من باطن الأرض صناعة، والمركبات التي تذهب إلى الفضاء الخارجي صناعة، وريّ المزروعات صناعة، وحتى إنتاج اللحوم من المشتقات النفطية أصبح صناعة.
بدأت الصناعة بمشاغل يدوية محدودة، لكن في عام 1768 اخترع بريطاني يُدعى ريتشارد أركرايت مغزلاً للشعر المستعار.. وسرعان ما انتقلت الفكرة إلى صناعة الأقمشة ونسج الأثواب التي كانت قبل ذلك تتمّ باليد.. فبدأ عصر الصناعة من خلال مصانع غزل القطن. وهكذا أصبحت بريطانيا تتربع على عرش هذه الصناعة من خلال المزاوجة بين حصاد القطن الأميركي وصناعة الغزل والنسيج. وحتى عندما قامت في الولايات المتحدة ثورة التحرر من بريطانيا وأخرجت منها القوات الإنجليزية، بادر البريطانيون إلى احتلال مصر لتكون بديلاً عن أميركا في إنتاج القطن الذي تحتاج إليه مصانعهم. ولذا ليس مستغرباً القول بأنه كان من أهداف الاحتلال البريطاني لمصر تمويل مصانع النسيج (في بوركشاير) بما تحتاج إليه من القطن.
وينطبق ذلك على العديد من الدول الصناعية الأخرى التي توسعت في مشارق الأرض ومغاربها سعياً وراء مواد خام لتلبية حاجات مصانعها.. أو لتسويق إنتاج هذه المصانع. وقد تطلّب ذلك تشجيع ثقافة الإنتاج في الدول الصناعية وثقافة الاستهلاك في الدول الأخرى. وأصبحت هذه المعادلة بشقّيها، الأساس الذي قام عليه الاقتصاد العالمي وما يزال.
لكن أخذت الصورة تتغيّر مع بداية عصر الصناعة الإلكترونية في منطقة «سيليكون فالي» في كاليفورنيا بالولايات المتحدة. وهي صناعة تقوم أساساً على «المعلومة». ولذا ترتفع حول أسرارها الأسوار والأسلاك الشائكة.. وتُخاض عليها وبسببها صراعات دولية حادة خاصة بين الصين والولايات المتحدة.
خرج العالم من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي. وفي الوقت الذي ما تزال هناك مجتمعات عديدة في قارات أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا.. تعيش في المجتمع الزراعي، فإن مجتمعات عديدة أخرى تجاوزت العصر الصناعي لتدخل العصر الإلكتروني.
يتحدث الدكتور فريمان عن أولئك الذين يعملون في صناعة قطع أجهزة الآيفون مثلاً، لكنهم لا يعرفون كيف يستعملونها ولا حتى الفائدة منها. ويتحدث عن أولئك الذين يصنعون الأحذية الرياضية التي يستخدمها نجوم كرة السلة أو كرة القدم، وهم لا يملكون ما يكفي لشرائها.
الصناعة في عالم واستخدام المنتجات الصناعية في عالم آخر. إنها جدلية العلاقة بين الإنسان والآلة الصناعية في القرن الحادي والعشرين. والسؤال الآن هو: ماذا بعد العولمة والتدويل حيث العقل المفكر في مكان واليد العاملة في مكان آخر؟ وماذا بعد المكننة حيث ينشغل العامل بالجزئيات الصغيرة التي تشكل عالمه الكلي لتصبح بعد تجميعها شيئاً آخر؟ وماذا بعد اعتماد مبدأ التجارة الحرة والأسواق المفتوحة؟ وماذا بعد تكريس قاعدة العرض والطلب في المبادلات التجارية للمنتجات الصناعية؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات ملك لثقافة ما بعد الصناعة.
*كاتب لبناني