أشار ابن مسرة إلى «علم المحن» ولم يُفصّل، ونحن نستأنف القول فيه، فنتساءل عن موضوعه ومنهجه ومفاهيمه؟ وأي ملامح تكشف عنها فلسفته؟موضوع علم المحن التّقلبات الطّارئة على الوجود الإنساني من مصلحة ومفسدة، ومضرّة ومنفعة، أي الأحوال التي تُلِّمُّ بحياته فتُسعده أو تشقيه.

ويعلمنا هذا العلم أن المحنة ليست في البلاء المُضِرِّ فقط، بل هي في الغنى المُطْغِي كذلك. ومن هنا سعة الحقل الدلالي لعلم المحن. أما منهج هذا العلم فيتمثّل في إرادة سلوك سبيلي الصّبر والشّكر، فيصبح «علم المحن»، بذلك، ضرباً من معيار وجودي يَخْبُرُ بهِ الإنسان ذاته، ويُميّز الأصدقاءَ من الخصوم. نجد الوجه الفلسفي لـ«علم المحن» في القرآن الكريم في مفهوم «الابتلاء»، والابتلاء يكون في الخير والشّر، «ونبلوكم بالشّر والخير فتنة»، أما الغاية منه فاختبار معدن الإنسان، والاطلاع على ما يستكنُّ في نفسه، وما يضمره الآخرون، مما لا يظهر له في بادئ الرأي.

لكن ليس مصير الإنسان إلى حال من العوز والمرض والضّعة، هو المحنة فقط، بل إن مصيره إلى حياة المتعة والرّفعة هي ضرب من محنة أيضاً، إذ يمكن أن تصبح شرًّا عليه، إذا هو لم يلتفت إلى طبيعتها العرضية، فاعتبرها مكسباً ثابتاً وجوهرياً، وذهل عن فضيلة «شُكر المنعم»، وهذا الضرب من الذّهول جالبٌ للمحن، كما أبرز الشّيخ السّبكي الابن في كتاب جليل له، في فلسفة المحنة، سمّاه «مُعيدُ النّعم ومُبيدُ النّقم»، جعل مداره على الأسباب التي تُسْلَب بها العطايا، وكذا الأسباب التي بها يعيد الله صنائعه ومعروفه.

إن «علم المحن» هو علم فَحْصِ سؤال الشر والخير في العالم، وهو سؤال محيّر لتردده بين الجبر والاختيار، ولأنه يسائل العناية، وقد أخذ من الفلاسفة جهدا، وقد اعتبر القدامى الشرّ عرضا زائلا ونسبوه إلى العدم لجوهرية الخير وكماله، وتظل العاهات ومصيبة الموت الظاهرة المركزية في هذا العلم، وللفلاسفة في الموت مواقف متباينة، وقد اعتبر القرآنُ الكريمُ الموت ذَوْقا لازبا، ونُقْلةً إلى عالم آخر، مع حثٍّ على العمل الصّالح لأثره في هذه النّقلة، على اعتبار أنه يحدد طبيعة المصير الدائم للإنسان، وعندما تضرب المحنةُ بقوةّ، يُجلِّي «علم المحن» ثلاث حقائق على الأقل: أنّ الحياة الدّنيا دارُ عبور، عبورٌ بالأسقامِ، وحين تميدُ الأرضُ المميتةُ بالزلازل والأعاصير والفيضانات والأوبئة والثّلوج، وحين يأتي الأجل المحتوم، عندها يَسْبُر الإنسانُ هشاشتُه المكْلُومة أمام العظمة والدّيمومة والجلال.

وثانيها، أن المحن مطايا المنح، ومِنْ مِنَحها تَحْريضُها على معرفةِ أسبابها للاعتبار، والخروجِ، بالدّهشة والسؤال، من كهف الغفلة والأوهام، خاصة مع فوضى عصرنا المنظّمة. وفي ثقافة المسلمين نظرٌ فسيحٌ يتردّد بين الأسباب الطّبيعية والميتافزيقية، وفي أجوبة الرصّاع التّونسي على أسئلة الموّاق الغرناطي في القرن التّاسع للهجرة دليل على ذلك. وفي فلسفة المسلمين تنبيهٌ على احترام العقل كإدراك للحوادث بأسبابها، فمن رفع الأسباب فقد رفعَ العقل والأخلاق، كما يُعلّمنا ابن رشد الحفيد.

وثالثها، أن الخير في الإنسان عريق، حقيقةٌ تطفو عند نزول المحن، فترى نفيرا من التّضامن الإنساني، المادي والرمزي، لا يكاد يُتوقّع. فهل نكون، بما سبق، قد وضعنا مقدّمات لتأصيل «علم المحن»، علمِ ابن مسرّة اليتيم؟

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.