«لاهوت التحرر» وإن كان حديثاً كمصطلحٍ في الستينيات مواكباً لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، خاصة في أميركا اللاتينية، بعد الثورة الكوبية، وحلم جيفارا، ووجود بُعد شاسع بين العقائد اللاهوتية والأيديولوجيات السياسية، بين الكنيسة والجبهات الشعبية.. فإنه قديم بقدم الإنسان على الأرض ونشأة الأيديولوجيات والديانات والفنون.
فكونفوشيوس أنزل الدين الصيني التقليدي في كتاب «التغيرات» من السماء إلى الأرض، من عالم الآلهة إلى عالم البشر. وقد تجاوز بوذا تعدد الآلهة في الهندوكية إلى ضبط النفس والسيطرة على الأهواء. وذلك يعني في كلتا الحالتين أن الدين في خدمة الإنسان. والشنتوية تجعل الدين عماد الدولة والجماعة. وكذلك كان الحال في دين مصر القديم، وفي الزرادشتية دين فارس.. كانت الأمة والدولة.
ودين إبراهيم كان ثورة اجتماعية منذ نوح، ثورةً على الجهل والرذيلة دفاعاً عن العلم والفضيلة. لاهوت التحرير إذن قديم بقدم الزمان، وقد نشأ في العديد من المجتمعات ذات الظروف المتشابهة. والسؤال هو: كيف يُعرض «لاهوت التحرير» في ثقافتنا المعاصرة؟ هل هو نتاج غربي منذ الستينيات يُروَّج له بالترجمة والعرض والتأليف كما هو الحال في بقية المذاهب والأيديولوجيات الغربية بناءً على موقف شائع من الغرب، أنه مصدر العلم وليس موضوعاً للعلم، أم أن الباحث العربي متعدد الثقافة، فهو على الأقل ذو ثقافتين، ثقافة غربية حديثة وثقافة عربية إسلامية قديمة، ويمكنه الاستفادة منهما كرصيد علمي في دراسة العلاقة بين الدين والتحرر؟
إن عرض لاهوت التحرير على أنه تجربة غربية أولا انتشرت بعد ذلك في أفريقيا وآسيا (وإن لم تنتشر بعد في العالم العربي)، بعد أن انتشرت في أميركا اللاتينية التي هي في نشأتها جزء من الثقافة الغربية المسيحية، حيث تم استئصال ثقافات الشعوب الأصلية ولغاتها.. هو ابتسار لتجربة قديمة قدم البشر بآلاف السنين في خمسة وثلاثين عاماً هي عمر تجربة لاهوت التحرير في الغرب.
فلا يكفي عرض تجارب لاهوت التحرير في الغرب أو الشرق دون مزاوجتها بمادة جديدة عربية إسلامية من لاهوت التحرير في الثقافة العربية الإسلامية. تعريب المادة ضروري من الثقافات المحلية والتجارب الخاصة. عرض المادة وتجارب الآخرين ضروري، سواء في مرحلة الترجمة مثل «لاهوت التحرير الآسيوي» لألويزيوس بيريس حتى ولو كانت الترجمة تعريباً بتصرف.
وظروف أميركا اللاتينية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، خاصة في الستينيات، مشابهة لظروف الكثير من بلاد العالم النامي. فأميركا اللاتينية محاصرة بين قوى ثلاث: الأولى الولايات المتحدة الأميركية في الشمال، وما تمثله من هيمنة على الجنوب، إما مباشرةً بالتعاون مع حكومات محلية، أو عن طريق غير مباشر عبر الشركات الكبرى التي تستغل الثروات الاقتصادية للجنوب. والثانية بعض المؤسسات التي تمثل سلطة القهر والهيمنة في الشمال. والثالثة الإقطاع وكبار ملاك الأراضي المتعاونين مع الأميركيين والمؤسسات الحليفة لهم ضد الفلاحين من أجل نهب محاصيلهم والاستيلاء على أراضيهم.
وكثيراً ما كانت الكنيسة الرسمية متعاونة مع هذه القوى الثلاث ضد الشعب المطحون بالفقر والجهل والمرض والمخدرات والجريمة وشتى ألوان الحرمان. ولم يعارض هذه الصور المختلفة للهيمنة إلا الماركسيون كبؤرة لتجمع كل الوطنيين، كما حدث في الثورة الكوبية والثورة الفيتنامية.
فظهر الرهبان الشبان، مثل كاميو توريز، لينضموا إلى القوى الوطنية باسم الدين وليس باسم الأيديولوجيا، وباسم الله وليس باسم الماركسية، وبدافع الإيمان وليس تطبيقاً للمادية التاريخية أو المادية الجدلية.. فنشأ لاهوت التحرير كأيديولوجيا ثورية تحررية شعبية للجماهير تربط بين الدين والثورة، الإيمان والعدالة، الله والشعب، العقائد والمطالب الاجتماعية، الوحي من ناحية والحرية والإخاء والمساواة من ناحية أخرى. لاهوت التحرير إذن هو أيديولوجيا ثورية شعبية تنبثق من بؤرة الثقافة الوطنية. فالنخبة المثقفة وحدها، مع طليعة الطبقة العاملة، هي القادرة على فهم الماركسية. أما جماهير الشعب فلا يحركها إلا تثوير التراث كما فعل المصلحون والثوريون الشعبيون والمثقفون العضويون.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة