مما لا شك فيه أن أهم تيارات الفكر العربي الحديث هو تيار الإصلاح الديني الذي يبدأ من الدين، وينتهي إلى الدولة، تيار الأفغاني وتلاميذه في مصر، والكواكبي والقاسمي في الشام، وعلال الفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ومالك بن نبي في الجزائر، ومحمد بن عثمان السنوسي في تونس، وعمر المختار في ليبيا، والمهدي في السودان، والألوسيان في العراق، والشوكاني في اليمن.. وغيرهم.
يبدأ من الدين بالمعنى الشائع، أي العقائد والشرائع والعبادات والمعاملات. ولا يضعه ضمن منظومة أوسع مثل التراث الذي يشمل العلوم القديمة، النقلية والعقلية ومزيجهما، ويضم الأمثال العامية والحكايات الشعبية والمواويل والملاحم التي امتزج فيها التراث بتجارب الشعوب. لذلك يظل الدين في التيار الإصلاحي في إطار المقدس الذي لا يمكن تناوله بالتحليل التاريخي، في حين أن التراث من صنع العلماء، وهم رجال، ونحن رجال نتعلم منهم ولا نقتدي بهم.
لذلك ظل التردد قائماً في تناول العلوم القديمة، خطوةً إلى الأمام وأخرى إلى الخلف. ظل الأفغاني أشعرياً، وتحول محمد عبده من الأشعرية إلى الاعتزال إلى النصف، حيث ظل أشعرياً في التوحيد وأصبح معتزلياً في العدل، واستند إلى الماتريدية في آسيا الوسطى.
أما المدرسة السلفية الجديدة، فاستندت إلى النص، وإن أقرت بأن الوحي انتشر بسرعة في التاريخ، مبرزةً مفهومي الواقع والتاريخ، ومؤسسةً بذلك فلسفةً في التاريخ، باعتباره تقدماً وليس باعتباره انهياراً، كما كان الحال في المفضول والأفضل، وخير القرون قرني، وظهور الإسلام غريباً وعودته غريباً كما بدأ، والانهيار من الخلافة إلى الملك! ومع ذلك استمر علم الكلام بنسقه الأشعري، أي نظرية الذات والصفات والأفعال، وضرورة النبوّة لإكمال العقل.
صحيح أن «الحصون الحميدية» لحسين الجسر حاولت أن تضع نتائج العلوم الطبيعية الحديثة ضمن طبيعيات علم الكلام لتطويره. ومع ذلك، ظلت البنية التقليدية للعلم هي السائدة. أما الفلسفة، فظلت كما تركها ابن سينا، متمثلة في المنطق والطبيعيات والإلهيات، دون تجديد أو تطوير أو إضافة للإنسانيات في حقول السياسة والاجتماع والتاريخ. كما ظل التصوف كما تركه الغزالي من علوم الذوق دون أن يحاول أحد من المحدثين إعادة بنائه من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي، ومن الانعراج إلى أعلى إلى التقدم نحو الأمام، ومن المقامات والأحوال النفسية، مثل الصبر والتوكل والورع والرضا والخشية والخوف والزهد، إلى مقامات وأحوال أكثر إيجابية، مثل النقد والرفض والاعتراض والاحتجاج ونفاد الصبر.
صحيح أنه تم بعض التحديث الجزئي للعلوم النقلية الخالصة. ففي علوم القرآن، تم إبراز القصص الفني والتصوير الفني عند «خلف الله»، وتحليل الخطاب ومفهوم النص عند نصر حامد أبو زيد. وتم الانتقال من نقد السند إلى نقد المتن في علوم الحديث الشريف. وأُعيدت قراءة السيرة النبوية في «محمد رسول الحرية» وفي «منزل الوحي» و«على هامش السيرة».
وبرز التفسير الاجتماعي في «تفسير المنار»، والتفسير الفني في كتب ودراسات عدة. كما تم إبراز أهمية المعاملات في علوم الفقه، والمقاصد في علم أصول الفقه.. لكن ظلت كلها محاولات جزئية محدودة المدى والعمق، ولم تستطع الوقوف أمام التيار التقليدي التاريخي الجارف المناوئ للعقل ولإعمال آليات النقد الثقافي وأدواته التفكيكية.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة