من المعلوم من التاريخ بالتوثيق والتواتر أن جماعة «الإخوان المسلمين» طلبتْ أن يتولى أحد قياداتها وزارة التربية والتعليم إثر تحالفها مع «الضباط الأحرار» في مصر عقب توليهم السلطة عام 1952؟. وكان سيد قطب المرشح الأول لهذه المهمة، قبل صدام «الإخوان» بالعسكريين. ولأن الجماعة أخفقت في إجراء تحالف آخر في ما بعد حول تقاسم السلطة أو توزيعها، فإنها اكتفت بالتغلغل في التعليم بمصر، مستغلة توظيف السادات لها في ضرب اليسار، وتفاهم مبارك معها مرحلياً في أكثر من محطة، وهي بهذا كانت تستجيب لوصاية ومسلك مؤسسها حسن البنا، الذي عمل بالتدريس، وأدرك أن المدارس هي أقوى مسار لنشر أفكاره، جنباً إلى جنب مع المساجد.
هذه الطريقة طبقتها الجماعة في بلدان عربية وإسلامية كثيرة، وسمعنا وقرأنها شهادات على هذا، ورأينا واختبرنا آثاره، لكن تظل تجربة «الإخوان» في دولة الإمارات العربية المتحدة هي واحدة من أشد التجارب وضوحاً في هذا. فقبل سنوات ضم كتاب صدر عن مركز «المزماة» تقارير حول هذه المسألة، لكنها كانت مجرد رصد تعوزه شهادات من الواقع، إلى أن جاء ما كتبه الكاتب وأستاذ العلوم السياسية د. جمال سند السويدي في سيرته الذاتية المعنونة بـ «لا تستسلم.. خلاصة تجاربي»، ليسرد ما سمعه ورآه وجربه وعانى منه أيام كان يقوم بالتدريس في جامعة الإمارات من سيطرة «الإخوان» على المسار التعليمي، وخصوصاً «البعثات الخارجية»، وذلك في معرض تناوله لحياته الجامعية طالباً ومبتعثاً ومدرساً وأستاذاً.
وعاد السويدي إلى هذه التجربة بالتفصيل في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان «الحسابات الخاطئة.. جماعة الإخوان المسلمين في دولة الإمارات العربية المتحدة» ليركز على تجربة «الإخوان» مع التعليم، بعد استعراض نشأة الجماعة وتاريخها في الإمارات ثم تكوين«جمعية الصحوة» التي تعد التنظيم المحلي لها. والفصل الخاص بالتعليم هو الأكثر أهمية في الكتاب، ويبدأه الكاتب: «في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات انتقل عدد كبير من جماعة الإخوان المسلمين من مصر وسوريا والأردن إلى دول الخليج العربية.. وسيطرت جماعة «الإخوان في دولة الإمارات على التعليم في عقدي السبعينيات والثمانينيات، وبعد ذلك سيطرت على وزارة التربية والتعليم، وجامعة الإمارات»، معتبراً هذا هو «الغنيمة الكبرى» التي حصلت عليها الجماعة، لأنها رأت أن التعليم هو «مدخل السيطرة على ثقافة المجتمع وقيمه».
وشرح الكتاب كيف كانت الوزارة تستقطب، من دول عربية، مدرسين منتمين للجماعة لمختلف المراحل التعليمية بالإمارات، ثم بين كيف أوجدت السيطرة على العملية التعليمية، قبل أن تنتبه الدولة لهذا وتتدخل لإنهائه، فرصة للتواصل بين الجماعة والطلاب من الصبية والشباب، وكيف أنها لم تقتصر في سعيها هذا على المدارس الحكومية إنما استهدفت المدارس الخاصة أيضاً.
وهنا يشرح الكتاب كيف هاجمت الجماعة «التعليم الأساسي» بصيغته التي كانت مطبقة، متهمة إياه بالتغريب، حتى يتسنى لها تبرير وتمرير تصوراتها الخاصة عن التعليم، خاصة تلك التي تُعرف بـ «المنهج الخفي»، حيث يستغل المعلمون المنتمون للجماعة قيامهم بالتدريس للتلاميذ في نشر أفكارها أثناء شرحهم للدروس المدرجة في الكتب المدرسية المعتمدة من قبل الحكومة. وفي الجامعة احتكرت الجماعة البعثات التعليمية إلى الخارج، وقصرتها على أعضائها أو المنتسبين إليها والمتعاطفين معها، وحرمت من لا يعتنق فكرها أو يخلص لأيديولوجيات أخرى من الابتعاث. وتمكنت الجماعة، في مختلف مراحل التعليم من الابتدائية إلى الجامعة، من استمالة بعض المسؤولين عن العملية التعليمية من غير «الإخوان»، كما وظفت مدرجات الجامعة وقاعاتها في عقد ندوات ومؤتمرات ولقاءات فتحت فيها الباب واسعاً لأساتذة وكتاب وباحثين منتمين إليها لنشر أفكارهم بين الطلاب، وسيطرت على الكثير من الأنشطة الطلابية، وحولتها إلى ما يخدم تصور الجماعة ومسارها واستراتيجيتها في التغلغل والتمدد.
بهذا يضعنا الكتاب في ضوء تجربة مهمة، تضاف إلى مثيلاتها في بلدان عربية وإسلامية عدة، سعت فيها جماعة «الإخوان» إلى السيطرة على عقل المجتمع عبر امتلاك نفوذ واسع في التعليم.