الصبر في مصر مشهود، تزخر به الأمثال العامية، وهو من مقامات الصوفية التي ازدهرت طرقُها في العصر العثماني. وهو من القيم الدينية الموروثة، والتي تجد أصولها في القرآن والسنة على نحو إيجابي، جمعاً بين الصبر والمثابرة، بين الصبر والاستعداد، لأن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على النار دون أن يصرخ من الاحتراق: «مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار».. قبل أن يستقر الصبر على معناه السلبي في الثقافة الشعبية، لكن الانتفاضات الشعبية في مصر مشهورة أيضاً؛ للفلاحين والعمال والطلبة والجنود. فمصر في جدل دائم بين القبول والرفض، الطاعة والعصيان، الرضا وعدم الرضا، السلام والحرب.
تاريخها المعاصر مصداق لهاتين الموجتين، الارتفاع ثم الانخفاض. فمنذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي ومصر تقود نهضة العرب من بر الشام ومن ساحل المغرب. وانتهت هذه النهضة بالاحتلال البريطاني لمصر بعد هزيمة العرابيين، ثم نهضت مرة أخرى بعد ثورة 1919 واستمرت في نضالها الوطني من أجل الدستور والجلاء التام ووحدة وادي النيل حتى اقتطف الضباط الأحرار الثمرة وقامت ثورة 1952 تتويجاً لهذا النضال، وتحقيقاً لمطالبه. وبلغت ذروة الثورة المصرية مع تأميم قناة السويس في عام 1956 وعمليات التمصير في عام 1957، ثم قيام الوحدة مع سوريا في الفترة بين عامي 1958 و1961، وقوانين يوليو الاشتراكية عامي 1962 و1963، ومناهضة «الحلف الإسلامي» في عام 1965. ثم جاءت هزيمة يونيو عام 1967 كي تجهض حلم الستينيات، ثم قامت حرب أكتوبر عام 1973 كي ترد إلى الوطن كرامته، لكن تغيرت إرادة المقاومة، وتم الصلح مع إسرائيل قبل إزالة آثار العدوان واسترداد حقوق شعب فلسطين.. فتبدّلت إرادة الصمود والموقف الحقوق التاريخية للشعوب.
وربما تعلمت مصر الآن، وهي تحاول العودة إلى موجة جديدة من النهضة في الداخل عبر إعادة بناء البنية التحتية، وفي الخارج عبر إعادة قيام مصر بدورها التقليدي كمركز في محيطها العربي الإسلامي. فربما الصعود قادم، والموجة آتية والمد وشيك بعد السقوط والموجة الهابطة والجزر والانحسار.
إن مصر جزء من حركة التاريخ ومساره، تاريخها الخاص ومسارها الذاتي. ودون الاتحاد فإنها قد تسير في مسار خططه له غيرها. إن مهمة السياسة الداخلية هي رؤية مصر لذاتها أولاً ولمسارها التاريخي وإمكانياتها ومحيطها ترتيباً للبيت من الداخل قبل الانطلاق إلى الخارج ثانياً. وهذا لا يتأتى إلا بمعرفة روح مصر في التاريخ. وإن صياغة سياسة مصر الداخلية لا تتم إلا عن طريق حساب إمكانيات مصر ومعرفة السمات الرئيسة للشخصية المصرية التي حاول إدراكها المؤرخون والجغرافيون والسياسيون والمفكرون والأدباء والشعراء والبسطاء الذين يعبّرون عن حكمة الشعوب في الأمثال العامية والنكات الشعبية.
إن علم السياسية لا يعني بالضرورة النظريات السياسية والجداول الإحصائية والتحليلات الكمية والتأريخ للحوادث والمعاهدات والمواثيق والقوانين والقرارات. هناك السياسة الشعبية، أي الإحساس بالسياسة عند البسطاء والتعبير عنها بلغتهم. وكثيراً ما كان كبار القادة والقواد العظام من الفلاحين البسطاء قبل أن ينظّر علم السياسة حركاتهم السياسية وممارساتهم التاريخية.
عندما تتحدث مصر عن نفسها فإن ذلك لا يعني شعر السياسة وأدبها، وهو السهل الممتنع الذي يعز على علماء السياسة وأدبائها، إذ يعني تحويل السياسة إلى تجربة معاشة للأفراد والجماعات، يمكن وصفها، وعلى أساسها يمكن تأسيس القرار السياسي والنظريات السياسية. حينئذ يصبح علم السياسة ليس علماً مجرداً منقولاً عاماً، ينطبق على كل التجمعات السياسية، أيْ نموذجاً رياضياً قادراً على تفسير كل الظواهر السياسية، بل هو علم خاص يغوص في الحركية السياسية لمجتمع معاش، لا فرق فيه بين العالم والمواطن، المنّظر والممارس. ولحظة صدق في الخطاب السياسي قد تكون أبقى من نسق علمي مهني بأكمله.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة