استعدت أيامي التي راحت بعيداً، حين كان المدرس يقف بيننا ونحن في الصف السادس الابتدائي، ولا يكف عن السؤال: من فتح القسطنطينية؟ فيرفع كثيرون منا أصابعهم راغبين في الإجابة، التي لا تحتاج إلى جهد جهيد، فيختار المدرس أينا، ليقول في اطمئنان: محمد الفاتح.
يبتسم ويطلب من كل الزملاء التصفيق لمن أجاب، لكن لا أنا، ولا هو، ولا هم، قد حلموا في تلك الأيام البعيدة برؤية هذه المدينة المسورة التي استعصت قروناً على الجيوش المدججة بكل سلاح أتيح لها في تلك الأيام البعيدة، وبالشجاعة الفائقة. صرت في يوم من الأيام، ودون أدنى ترتيب مني، أمامها، عياناً بياناً. ها هو السور القديم الذي كان يفصل بين شطري المدينة، نصفه الذي اعتنق الإسلام، ونصفه الآخر الذي استعصى على المسلمين.
أمام السور تراءت لي تواريخ مديدة، ووجوه زملاء أيام الطفولة في المدارس البريئة، الذين كانوا يحفظون كل ما هو في الكتب، ولا يعتقد أي منهم أنه قابل للمراجعة، ولو قليلاً، دون أن يفكر أحدهم أن يرى الذي حال دون فتح المدينة كل هذه السنين.
صرت أمام السور، فاستعدت الحروف والوجوه والأيام البعيدة فوق المقاعد الخشبية، بينما كنت وقتها أتوه في خيال لا حدود له، شارداً في هذا الفارس البعيد، الذي كان فوق فرس وفي يده سيف، وعلى رأسه خوذة حديدية. أنفه واقف كحد سكين. عيناه ذاهبتان إلى حيث لا يراه غيره، وهو يتقدم الصفوف، ويشير إلى الرجال المتحفزين الواقفين خلفه، أن يتبعوه وهو يضرب السور بسيفه، معلناً انتهاء معاناة طويلة في سبيل اقتحام هذا المجهول.
لم يكن السور الذي تخيلته في طفولتي، إذ لاح لي مختلفاً تماماً. فأنا الواقف أمامه لم أكن سوى سائح، جاء بعد أربعة عقود، ليرى عبرة القرون التي خلت، ولا يعرف كثيراً عن الرقاب التي طارت في سبيل اقتحامه، وإن عرف فلا يمكنه رؤية الدماء التي سالت غزيراً، ولن يرى هذا أبداً، إلا من ذاكرة مثقوبة، لا يمكنها أن تستعيد الآلام والأنين الذي كان.
كنا، ونحن تلاميذ، نردد كل شيء، على خطأ من الذين وضعوا المناهج ومن كرروها على مسامعنا، ولا ندري أيامها، أن الحرب نفسها لا تحتاج إلى ترديد، فكل نصر فيها كان يتطلب إبداعاً جديداً. لكن لم يكن أمامنا من سبيل، ونحن التلاميذ المغلوبين على أمرهم، إلا أن نردد مع المدرس ما يقوله، عن المدينة التي استعصت والقائد الذي تجاسر أمام جنده وأنهى كل ما استغلق على من سبقوه.
بدا السور لي مستأنساً يدعو زائريه إلى الإقبال عليه، وهو الذي كان في الزمن الذي ولى يرسل إليهم الفزع. اقتربت أكثر منه، واقتحمت عيني، الزهور التي تسلقته، وأنا أستمع إلى من اصطبحنا ليشرح لنا بعض معالم المدينة، ويأتي على ذكر تفاصيل كل ما خفي عنا بين السطور التي قرأناها، دون أن يدري أنني أنا الواقف أمامه قد شردت في عالم آخر غير الذي يتلوه على مسامعي.
هنا لم أر السيوف المشرعة، ولا الحراب المسنونة، ولا النبال المارقة في اتجاه الرقاب، إنما رأيت الشجر الوديع الذي يرسل فروعه وأزهاره اليانعة إلى السور، ورأيت الحجر الذي أبلاه الزمن، والارتفاع الذي كان في الزمن الذي مضى شيئاً مهيباً رهيباً قد صار مجرد خطوة يقطعها، حتى شردوا وتاهوا، في سبيل الوصول إلى هدفهم. صار سوراً بسيطاً في زماننا.
قلت لمن يقف إلى جانبي: لا تقدره بمقدار زمان الصواريخ والطائرات الذكية التي تخترق كل حجب، لكن كي تفهمه عليك أن تدرك كيف كان في زمان لا يستطيع فيه حصان ولا رجل أن يقفز من فوقه. نظر إليَّ، وهو يهز رأسه، فواصلت: اليوم غير الأمس، وغير ما سيأتي، كل الأسوار التي بين الحضارات يجب أن تزول.
* روائي ومفكر مصري