يعتبر الفيلسوف إميل دوركايم (1858–1917) واحداً من كبار علماء الاجتماع الذين وضعوا لهذا العلم منهجيةً وقواعدَ خاصة تقوم على ثنائية النظرية والتجربة في آن واحد، وهو ما قرّب منهجية العلوم الإنسانية والمجتمعية من منهجية العلوم الحقة. وقد تطرّقت دراسات دوركايم القيّمة إلى الكيفية التي يمكن من خلالها للمجتمعات أن تحافظ على اندماجها الاجتماعي في ظل الحداثة. لكن المجال الذي أفاد فيه وأجاد هو ظاهرة الانتحار، ومن خلال دراسته لمعدلات الانتحار في المجتمع الغربي، وهو ما شكَّل في وقته عملاً رائداً في مجال البحوث الاجتماعية الحديثة، وساعد على تمييز العلوم الاجتماعية عن علم النفس والفلسفة السياسية. وقد ربط دوركايم بين الحالة الحرجة التي يعاني منها المنتحر وبين العوامل السوسيولوجية ذات الصلة بالمحيط الاجتماعي ونوعية العلاقات السائدة فيه. ولا جرم أن نراه يقوم بتجاوز شرح الظاهرة على أنها حالة مرضية شخصية إلى انعكاس الوضعية المجتمعية التي يعتبر فيها فشل الإنسان ذريعةً مباشرةً للانتحار. وقد تناول بالبحث والتنقيب ما وقع إبان الثورة الفرنسية وما تبعها من ويلات اقتصادية ومجتمعية جعلت العديد من الناس يقبعون في غيابات الفقر والحرمان، وهو ما أدى بالبعض منهم إلى الانتحار. وهناك في نظره الانتحار الأناني الذي يقع بسبب تفكك الروابط الاجتماعية، وهناك الانتحار الغيري (الإيثاري) الذي يقع بسبب رغبة الإنسان في التضحية من أجل الجماعة التي ينتمي لها، وهناك أيضاً الانتحار الفوضوي (اللامعيارى) بسبب الأزمات والاضطرابات التي تحدِث شرخاً عظيماً في النظام الاجتماعي بفعل تفشي حالات الفقر.
أكتب هذا الكلام موازاةً مع الدراسات المقلقة التي تشير إلى ارتفاع ظاهرة الانتحار في العالم، وبالأخص في الدول الغربية حيث أطلعتنا وسائل الإعلام مؤخراً عن ارتفاع هذه الظاهرة عند طلبة الجامعات. ففي أحد التقارير التي نشرتها منظمة الصحة العالمية، نقرأ أن شخصاً واحداً يموت منتحراً كل 40 ثانية، ليصل العدد، طبقاً للتقرير إلى نحو 800 ألف شخص سنوياً. وأظهر التقرير أن أكثر من نصف المنتحرين في العالم هم دون سن الـ45. وفي فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً، يأتي الانتحار في المرتبة الثانية بعد حوادث الطرق كسبب رئيسي للوفاة. ومن أكثر طرق الانتحار شيوعاً الشنقُ وإطلاقُ النار وتناولُ المبيدات السامة (خصوصاً في المناطق الريفية).
وتحتفل الرابطة الدولية لمنع الانتحار باليوم العالمي لمنع الانتحار في 10 سبتمبر من كل عام، وذلك بغية إذكاء الوعي بإمكانية منع الانتحار. وتشارك منظمة الصحة العالمية في رعاية هذا اليوم.
وحين تتراكم الأزمات الاجتماعية الضاغطة على الأفراد، كما جرى في زمن دوركايم أو كما يحدث اليوم بسبب تداعيات كورونا، تبدأ فكرة الانتحار تراود بعض الناس كمَخرَج سلبي سريع من الأزمة. وإذا أخذنا مثال فرنسا نجد أن ملامح المحاضرات قد تغيرت في الجامعات الفرنسية جراء تفشي فيروس كورونا، إذ منعت السلطات الطلاب من حضور الدروس منذ العزل العام في أكتوبر الماضي، وهو ما أثر على نفسية الطلبة وأحدث لهم عزلةً واكتئاباً ومشاكل صحية ونفسية خطيرة، وكانت النتيجة إقبال البعض منهم على الانتحار. وقد أسر إلي العديد من الزملاء الأطباء أن المختصين النفسانيين لم يسبق لهم في تاريخ مزاولة عملهم استقبال هذا العدد الكبير من الناس (وبخاصة من الشباب) الذين يعانون اليأس والاضطرابات النفسية الخطيرة.
وإذا استندنا إلى ما توصل إليه عالم الاجتماع دوركايم من نتائج حول العوامل التي تزيد من خطر الاندفاع نحو الانتحار، كالفقر والحروب والكوارث، وأضفنا إلى ذلك عوامل أخرى من قبيل فقدان الدعم العاطفي والاجتماعي، والطرد من الوظيفة، واليأس، والصدمات التي تعاني منها مجتمعات اليوم، خاصة مع تداعيات جائحة كورونا، فسيتضح أن المعتقدات الدينية والروحية الصحيحة تلعب دوراً كبيراً في الحماية من مخاطر الانتحار. لكن عندما يفشل مجتمع ما في منظومة القيم والتربية والتعليم، فهنا الطامة الكبرى، لأن البعض لن يؤمن بقدسية الحياة، ولن يكون هناك إيمان ولا يقين، ولا فهم للأسباب والمسببات المسيِّرة للكون، وسيعدم ذلك جذور التفاؤل الضرورية لحياة الإنسان، وسيجعل من مواجهة الصعوبات والابتلاءات التي قد تصيبه في حياته، أمراً شاقاً.