ما بين يناير العام الماضي ويناير العام الحالي تغيّر العالم بشكل يصعب تصديقه. مدينة «ووهان» في الصين، حيث اندلع وباء «كوفيد-19» وفرض عليها الحجر الصحي الكامل، تكتظ الآن بالناس شوارعها وأسواقها ومطاعمها وتضاء المصابيح على امتداد ضفاف نهر «اليانغتسي» الذي يشقها، والمشهور بسباحة الزعيم الصيني «ماو تسي يونغ» فيه عام 1962 وهو في عمر الـ72. «كيف أمكن للصين أن تفلح في السيطرة بسرعة وكفاءة على الوباء، فيما يكافح العالم للسيطرة عليه؟». تتساءل المجلة الطبية العالمية «لانسيت» (Lancet) في مقال رئيسي عنوانه «نجاح الصين في السيطرة على كوفيد-19». وتشير المجلة إلى اتهام زعماء الغرب في خطبهم العام الماضي في دورة الأمم المتحدة العامة الصين بالمسؤولية عن الوباء، فيما دعا الزعيم الصيني «شي» إلى الاهتداء بالعلوم، وشن حملة عامة لدحر الوباء، وتجنب أي محاولة لتسييس الموضوع أو استخدامه للتشهير. وقد يكون التشهير الوحيد الذي قامت به سلطات الصين إطلاقها طائرات «درون» (بدون طيار) تنبه امرأة تمشي في الشارع: «أجل يا عمّة نحن نكلمك، لا ينبغي أن تخرجي دون لبس قناع، وعليك العودة إلى البيت وغسل يديك»!
وأصبحت مدينة «ووهان» دليل عمل البشرية. يخلص إلى ذلك تقرير مسهب في «نيويورك تايمز» يعرض صور ووهان قبل عام، حيث الشوارع خالية، والمستشفيات مكتظة، ومشاهد الناس الملتاعين. وها هي الآن ووهان.. العزف والرقص والناس بدون أقنعة، يرفعون الأصابع بعلامة النصر، وحفلات عرض الأزياء، والعاملون يتزاحمون للحصول على مقاعد في قطارات الأنفاق التي تغطي المدينة، والتي كانت مهجورة طوال فترة الحجر. ومعارض تجارية عدة حوّلها الصينيون خلال أيام إلى مستشفيات، أصبح بعضها الآن معارض عن الوباء، تعرض صور الفرق الطبية التي هُرعت من جميع أنحاء الصين لتقديم العون إلى سكان ووهان. وتُقرّ الصحيفة بما تسميه «الدور المتفرد للحزب الشيوعي الصيني في دحر الوباء، وإعادة الحياة إلى ووهان»، والتي أصبحت «دليل العمل في وقف الفيروس اعتماداً على الأسلوب القيادي من الأعلى إلى الأسفل». والسؤال هو: أي نظام من الأسفل إلى الأعلى في العالم، حيث تفتقر معظم البلدان إلى أي نظام يتدّبر ردود أفعال الناس الذين ينتفضون حتى في دول الغرب؟
ويعرض تقرير تلفزيون «بي بي سي» احتفال سكان ووهان التي تحولت إلى مهرجان دائم، وعندما تُسأل سيدة فقدت شقيقها في الوباء عما يمكن أن تقوله للمحتفلين المبتهجين؟ تقول لهم «أن يبتهجوا، لكن أنا أبكي». ويحذر مراسل «بي بي سي» من نسيان دروس الماضي القريب. وهل ينسى دروس الماضي القريب أهل الصين الذين يحفظون أقدم الدروس في التاريخ؟ قالها حكيمهم «كونفشيوس» قبل نحو ثلاثة آلاف عام: «أعظم أمجادنا ليس في أن لا نقع قطُّ بل أن ننهض كلما وقعنا».
وحجم التغيير بالأرقام لا يفوق توقعات وخيال البشر فحسب، بل توقعات وخيال المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية. ومن يتوقع أن يتم فحص جميع سكان ووهان البالغ عددهم 11 مليون نسمة للتأكد من سلامتهم خلال عشرة أيام، وأن تبلغ نسبة نمو اقتصاد الصين منذ يناير العام الماضي أكثر من 2 في المائة، وأن تحقق الصين خلال الفترة نفسها معجزة تحرير نصف مليون صيني من الفاقة؟! وطلب العدالة الاجتماعية لم يؤسسه الحزب الشيوعي فحسب، بل يعود تاريخه إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، حينما كان كونفشيوس يقول: «عارٌ أن تكون ثرياً، ومُبَجّلاً في مجتمع ظالم». وفلسفة كونفشيوس تضمنت ما قد يبدو الآن اشتراكية، وذلك في قوله: «لو كانت هناك طريقة محترمة لتصبح ثرياً لكنت فعلته، حتى ولو كان هذا يعني أن أكون أضحوكة يتَنَطّع بسوط، لكن ليس هناك طريقة محترمة. لذلك أفعلُ ما يُعجبني».
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا