وهي كما يقال مزيج من الوليد والتليد؛ أي من مستحدثات العصر الحديث ومن الإرث البلاغي القديم، فالبلاغة اليوم واقعٌ بين أمرين، مطرقة الضوء والصوت وسندان القلم والورقة، حيث يتزامن وجود طاقة اللّغة اللفظية من استعارات وتشبيهات وكنايات... مع طاقة محسناتية قادمة من تأثير الألوان والمؤثرات الصوتية والضوئية المصاحبة، فالأولى وهي البلاغة اللفظية والمكتوبة، اعتمدت وسائل مطبوعة تحضّر لعملية تفاعل تأتي بشكل متصاعد ومتمهّل، فتحفظ المسافة بين الكاتب والنص من جهة وبين الكاتب والقارئ من جهة أخرى، فالبلاغة غير الرقمية تمنح المتلقين والمستمعين وبفضل السطور المتتابعة والعلاقات السببية التي تربط بين الجمل مساحةً كافية من التلقي وكذا للأطراف الفرصة ليمارس كل منهم التعقل والتدبر، لا الانفعال الفجائي والانجرار غير المحسوب في بعض الأحايين كما يحدث في النصوص المرقمة والمرئية، لقد تراجع أثر اللغة اللفظي والخطّي نتيجة تداخل الصور والأصوات والمؤثرات الضوئية واللونية، وصار العمل على انفعال المتلقي دون احتساب لأخلاق المنشئ أو المرسل كما في عملية التلقي التقليدية، فالنّص البلاغي وقبل عصر الرقمنة كان رهيناً لحكمنا على أخلاق المنشئ الخطيب قبل الحكم على نجاعة النص وجماليته، فصار الضوء والصوت يحتلان مساحة كبيرة من مساحة الاستيعاب الذهني السابقة، ما يعني معنى جديداً مختلفاً عن المعنى التقليدي الذي تؤطره البلاغة اللفظية، وبتنا كذلك الأمر أمام معجم رقمي جديد وأمام صور تقول أكثر مما تكتب؛ ما يعني أن زمن الكتابة ذاته في خطر اليوم، وصار هناك قصد دلالي مختلف للفظة، وهو قصد لا يتحكم به سياق الحال أو المقام بل يتحكم به ويطوّعه المستخدم الرقمي الجديد بفضائه المكاني والزماني المفتوحين على مساحة شاسعة من التلقي والاستجابة والرد والرفض والإذعان، لقد استطاعت الرقمنة أن تجعل للخيال حواضن ديجاليتيا جديدة سوى حواضن اللغة التزويقية، ما يعني نزع سلطة المؤلف السابق وإلقائها في فضاء مديد غير متناهٍ، فما يبرر تحولات الفهم والتلقي الجديدة وكذلك اتساع رقعة الاختلاف والخلاف بين لغة الجيل الواحد هو؛ هذه البلاغة الرقمية الجديدة التي فتحت سياقات استخدام كثيرة ومتنوعة للكلمات وللمشاعر وللأصوات الجديدة.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية