«لماذا يتقاتل البشر من أجل الأرض، فهناك أرض تكفي للجميع…!!!»، هذا كلام لسيدة عجوز أوكرانية لم تفهم معنى الحرب في أوكرانيا ولا معنى التدمير للحياة والمكان وتشريد الناس، وجاء ذلك في تغطية من التلفزيون الألماني (DW) في 15 يناير 2024، تظهر فيها السيدة باكيةً على منظر الدمار الذي وقع على بيتها وبيوت جيرانها، ومع وجعها فقد كانت تلوم أوكرانيا وروسيا معاً، ولذا كانت صرختها إنسانيةً وليست انحيازية مما يعزز التعاطف مع وجعها بما أنها تصرخ باسم الأرض وباسم الحياة وباسم البشر وليس باسم السياسة، إنها تبكي من أجل الأرض التي يفسد فيها البشر ويسفكون الدماء باسم الأرض، وهذه فتنة ثقافية يشترك فيها كل البشر بكل أجناسهم، وتاريخ صرخة السيدة الأوكرانية يتوافق مع تواريخ أحداث غزة، حيث الموت والدمار والقتل والتشريد باسم الأرض، أي قتل الأرض باسم الأرض، في حين أن في الأرض ما يكفي لحياة مشتركة بين البشر كلهم من دون حاجة لأن يقتل بعضهم بعضاً.
مسكينةٌ هي الأرض، كلٌ يدّعي أنه يحميها ولكنهم يفسدونها، وكلما وجد البشر فرصةً لسفك الدماء توسلوا لها بأي وسيلة تظهر فسادهم الذي يصورونه بصورة الحق مع أنه باطلٌ مطلق، ومن هنا تكون الحرب مقدسةً حيناً وتكون من أجل الأرض حيناً آخر وتكون من أجل شعار أيديولوجي ببعد سياسي أو بعد عقدي، وكلا البعدين مضادان للسياسة وللدين معاً لأن السياسة تفاوضيةٌ بالضرورة المعنوية لها، والدين تصالحي بالضرورة الإنسانية للتعبد.
ولكن يجري خطف المعاني للمتاجرة فتأتي الحروب ويعم الإفساد في الأرض بدل عمران الأرض الذي هو لب معنى الدين ومعنى التحضر، ونرى المفارقات الخطيرة من حيث إن أهم الديمقراطيات هي التي صنعت أخطر الحروب العالمية، وهي التي ألقت قنبلةً ذريةً مدمرةً على هيروشيما، وكل ذلك باسم التحضر والسلام، وكانت دعوى الحرية والسلام هي أيضاً دعوى الاستعمار وهي دعوى حروب أوروبا كلها مذ تقوت أوروبا ومذ حركت نظرياتها الفلسفية الإنساني منها والحربي، وكذلك حوّل الإنسان الاقتصاد إلى حروب طاحنة، وفي ذلك كانت الحرب بين الرأسمالية والاشتراكية، ومثلها حروب الثقافات والحضارات والديانات، وكل ذلك يقف وراءه الإنسان وتأويلاته للمعاني وتسخير المفاهيم للقيم لخدمة شروره، حتى إن الإعلام نفسه الذي هو أداة إخبار وتثقيف أصبح أداةَ برمجةٍ ذهنية لمصلحة المهيمن الذي بيده صناعة المنتج الأعلى قدرة وتأثيراً فسخّر مهاراته العلمية والتقنية لكي يزين القُبحيات ويشوه الجماليات، مادام ذلك يدرّ عليه المصلحة والمال.
وفي النهاية فليس لذوي الضمائر إلا أن يبكوا مع العجوز الأوكرانية ومع الفلسطينيين، ففي الأرض ما يكفي لأن يعتاش عليها الجميع، إذاً لماذا نتحارب على مكان يكفي لكل البشر ويزيد عليهم، ولماذا نلوث مكاناً نعيش فوقه ونتنسم نسماته وسنموت فيه، ولكن بعد أن نلوثه.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض