هي عبارة أطلقها هنري ميشو، تشير إلى موهبة البساطة التي تتصل بالنفوس البسيطة، والبساطة هنا تحيل إلى الأصل الفطري للإنسان، وهي الفطرية التي نلمسها في المشاعر بما أن المشاعر ذاتها خطابٌ لغوي ينطوي على كل مقومات اللغة التعبيرية التي نتطلبها عادةً في الكلمات، وقد ابتدأت الكلمات أصلاً من رحم الفطرية مثلها مثل زخات المطر تلك التي تنزل من السماء صافيةً رقراقةً وعذبة وطرية، ولكنها تتعقد حين تهبط إلى الأرض وتتعقد بدءاً من مخالطتها لطبيعة الأرض سبخةً أو صافية، ملوثةً أو نقية، وكذا هي حال الكلمات حيث تنطلق نقيةً فطرية ولكنها تختلط بالأذهان، في حين أن الأذهان متلبسةٌ بخبرات سابقة تم تخزينها على مدى الزمن ونحن نرث مخازن أذهان من سبقونا وتظل ساكنةً في داخل المخ وكأنها تتربص الفرص لكي تتلبس بما يهبط عليها من كلمات.
ولهذا نلحظ دوماً أن الكلمات التي تخرج منا وتتجه لغيرنا تقع في لبوسات متنوعة تتلبس بها بغير ما كنا نقصد من معانٍ، وهذه الفجوة التي تقع دوماً بين نية المرسل وفهم المتلقي تحدث بسبب تداخل الألفاظ مع المعاني، تبعاً لنوعية المعاني التي تلتقي معها الألفاظ، ولذا قالوا شعبياً (ولد بطني يعرف رطني)، بمعنى أن من ليس من بيئتي لن يعرف رطني وإنما يحول قولي إلى معجمه الدلالي وسياقاته الثقافية، وهذا أمر يحدث باستمرار وبتلقائية تفرضها تنوعات السياقات والمرجعيات الذهنية، ولذا جرى المصطلح على القول بموت المؤلف، أي بانطلاق القول بعيداً عن قائله لدرجة أن يصبح القول لقارئه وليس لقائله، وهذه حال ثقافية تكشف أسباب الشقاقات التي تحدث في خطابات حساسة مثل الخطاب السياسي والاقتصادي والحقوقي، حيث تحتاج الكلمات لمحاكمَ ومحامين ومؤتمرات كبرى وصغرى من أجل تحرير المعاني بين طرفٍ وطرف آخر أو أطراف أخر في تشابكات قد تؤدي لحروب حقيقية أو لفظية في الأقل، وتأتي هنا كلمة هنري ميشو لتمثل حسرةً تاريخية يعاني منها الفيلسوف والشاعر مثلما يعاني السياسي والحقوقي، ولقد دفع سقراط حياته ثمناً لهذه المعضلة حيث رأى كلماته تتحول بين الأذهان لدرجة اضطر معها للمثول أمام المحكمة ورفض معونة المحامين ظناً منه أنه الأقدر على شرح معانيه، ولكن المحلفين في المحكمة لم يتقبلوا شروحاته وقرروا إدانته تبعاً لما يختزنون من صور ذهنية مغروسة في نفوسهم تعاكس مقولاته، وهذا ما أوصله حد اليأس من توصيل الرسالة، فتقبل حكم الموت لأنه لم يستطع أن يشرح معاني كلماته التي سرت بين الجماهير وتلوثت بمعانٍ لم تكن من مقاصده، وتلك هي حال كل منتج لغوي إذ يظل تحت رحمة التأويلات غير النهائية.
وأختم بكلمة جاك كيروك: (يوماً ما سأجد الكلمات الملائمة، وحتماً ستكون كلمات بسيطة).
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض