السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جدلية الرواية التاريخية والأدب

نابليون بريشة جاك لوي دافيد (أرشيفية)
16 مايو 2024 00:49

إيهاب الملاح

(1)
ما من مرة تصدر فيها رواية تتعرض لحقبة تاريخية أو تستدعي شخصية «تاريخية» أو تعالج موضوعاً يوصف بأنه «تاريخي»، (أو حتى يعرض مسلسل يستوحي أحداثه من التاريخ، كما حدث في مسلسل «الحشاشين» رمضان المنقضي، وكذلك فيلم (نابليون) للمخرج ريدلي سكوت، إلا ويثور الجدل مراراً حول مفهوم «الرواية التاريخية» والعلاقة بين التاريخ والأدب أو الدراما والتاريخ! تلك الرواية التي يتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر حين يقرأ وصف «رواية تاريخية» أنها تلك الرواية التي تقوم في الغالب على تناولٍ تاريخي لأحداث أو وقائع لحقبة تاريخية معينة، إما بغرض العرض والتعليم، وإما بغرض الوصف والتصوير والنقل الحي لهذه الفترة أو تلك، وإما لأهداف أخرى أقرب إلى الفن والتخييل منها إلى التسجيل والتوثيق والتأريخ!
وهذا النوع من الروايات «التاريخية» معروف في أدبيات كثيرٍ من الأمم، ومن المؤكد أن له وظيفة ثقافية/ اجتماعية مهمة اقترنت بتحولات المجتمعات وانتقالاتها الأساسية من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، نظرياً وتاريخياً، فإن «الرواية التاريخية» نمط روائي شائع في معظم الآداب العالمية، إن لم تكن كلها بإطلاق، وهي من أشيع أنماط الرواية في تلك الآداب منذ ظهرت «الرواية الحديثة» من حيث هي شكل فني مقصود محدد، لم يظهر في أوروبا نفسها إلا في القرن الثامن عشر، ولم تكتمل مقوماته إلا في القرن التاسع عشر، إن فن الرواية أساساً هو فن الطبقة الوسطى، المعبر عنها والناتج عن ظهورها وتطورها.
ومعروف أن «الرواية التاريخية» تقوم في الغالب على تناولٍ تاريخي لأحداثٍ أو وقائع حقبة تاريخية معينة، أو شخصية تاريخية، سعياً لتحقيق أهداف فنية، أو ثقافية، أو سياسية.
وتقريباً نشأت الرواية التاريخية بوصفها جنساً مستقلاً له قواعده الفنية الخاصة به في إطار الرومانسية، وازدهرت في ظل المذهب الرومانسي، الذي يمجد الذات الفردية، والبطولة والأبطال، وتمثل العودة إلى التاريخ في هذه الحالة استنفاراً للمشاعر الذاتية في إطار الانتماء لمجتمع حديث ودولة حديثة، يمثل تاريخ شعوبها المشترك أحد أقوى روابط الانتماء الهوياتي، والخصوصية الثقافية.. وقدمت الروايات التاريخية، في تلك الفترة، الإنسان في دوره التاريخي والاجتماعي الفاعل، وكمَا تشكله وتؤثر في ظروفه ومحيطه عوامل التاريخ، وهي ذات النظرة التي أنتجها المذهب الرومانسي.

(2)
كانت هذه لمحة عامة عن «الرواية التاريخية» في تاريخ الأدب العالمي، أما «الرواية التاريخية» في أدبنا العربي الحديث فقد تأخر ظهورها إلى نهايات القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، على يد جرجي زيدان، حيث أراد أن يستغل الشكل الحكائي أو نمط الرواية التاريخية كما عرفته أوروبا في القرن التاسع عشر، كوسيلة فنية مشوقة وناجحة لتعليم جمهور القراء والمتلقين بشكلٍ عام.
كان الهدف الرئيسي من كتابة الرواية التاريخية عند روادها الأوائل في لبنان ومصر هدفاً تعليمياً عاماً تجلى بالأساس في تعليم التاريخ - بالمعنى الحرفي المباشر للعبارة - وكانت «الرواية التاريخية» في ذلك الطور الباكر من تاريخها تركز على تقديم الحقائق التاريخية المتعلقة بفترةٍ ما أو «شخصية تاريخية» ما، بالإضافة إلى تصوير الجوانب الحضارية والاجتماعية المميزة لتلك الفترة.
ومن سمات الرواية التاريخية في تلك الفترة أيضاً التركيز على الوصف التاريخي والجغرافي الدقيق والمفصل والموثق للأماكن التي تدور فيها أحداث تلك الروايات، بغرض نقل صورة أمينة أو أقرب ما يكون إلى واقعها التاريخي (فصّل القول في تحليل بعض روايات تلك المرحلة المرحوم محمد يوسف نجم في كتابه «القصة في الأدب العربي الحديث»، والدكتور عبد المحسن بدر في عمله الأشهر «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر»)

(3)
ولا يمكن الحديث عن الانتقالة التالية لكتابة الرواية التاريخية في أدبنا العربي الحديث، بعد جرجي زيدان، من دون الوقوف عند تأثير أحد أبرز كتابها في أوروبا على روائيينا، من جرجي زيدان وحتى نجيب محفوظ، وأبناء جيله في الأربعينيات.
احتذى جرجي زيدان في سلسلة (روايات تاريخ الإسلام) طريقةَ الروائي الإنجليزي الشهير سير والتر سكوت، في رواياته التاريخية التي غطَّى بها تاريخ بريطانيا في العصور الوسطى، وهو روائي شهير حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً لم يحققه أحد قبله، ويكاد يجمع النقاد ومؤرخو الرواية الحديثة على أنه «الأب الشرعي» للرواية التاريخية في شكلها التأسيسي في الأدب الغربي الحديث.
كانت أعمال السير والتر سكوت من أول ما ترجم إلى اللغة العربية من الروايات التاريخية (من أشهر ما ترجم من أعماله إلى العربية «إيفانهو»، و«الطلسم») وهكذا وبتأثير من أعمال سير والتر سكوت (ومعه الفرنسيان ألكسندر دوماس الأب والابن) حدثت النقلة التالية في مسار كتابة الرواية التاريخية في أدبنا العربي الحديث، من جرجي زيدان المؤسس إلى جيل كامل من الكتاب المصريين، على يد أشهر كتابها في الثلث الأوسط من القرن العشرين (نجيب محفوظ، وعادل كامل، وعبد الحميد جودة السحار، وسعيد العريان، ومحمد فريد أبو حديد، وعلي أحمد باكثير، وآخرين).  شكل هؤلاء الكتّاب تيارين متمايزين في كتابة «الرواية التاريخية»، التيار الأول استلهم التاريخ المصري القديم (وأبرز ممثليه نجيب محفوظ، وعادل كامل، وبدرجة أقل عبد الحميد جودة السحار). والتيار الثاني استلهم التاريخ العربي والإسلامي، ومن أشهر ممثليه محمد سعيد العريان، علي أحمد باكثير، محمد فريد أبو حديد، 

(4)
سيلي هذه المرحلة - التي استغرقت تقريباً أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي - تطور ملحوظ في كتابة الرواية التاريخية على مستوى المفهوم والشكل (تطور البنية والحدث والشخصية)، وعلى مستوى طرح أسئلة الواقع الراهن ومعاناة المرحلة سياسياً واجتماعياً وإنسانياً، كما في «السائرون نياماً» و«الكرباج» لسعد مكاوي، و«الزيني بركات» لجمال الغيطاني، التي مثلت علامة فارقة في تاريخ تطور هذا الشكل الروائي.
كانت الرواية التاريخية في تلك المرحلة قد تقدمت خطوة تطوير المفهوم، حيث قامت على «استلهام التاريخ» وليس إعادة كتابته، أو توظيف الإطار التاريخي «حقبة ما، شخصية ما، واقعة ما».. إلخ، لتشييد رواية متخيلة بالكامل يكون غرضها «معاصراً» تطرح أسئلة راهنة، وهموماً وإشكالات معاصرة، ويكون استدعاؤها للتاريخ مجرد غطاء أو قناع لطرح أسئلة شائكة أو للتحايل على موانع وعقبات رقابية أو تجنباً لإثارة مشكلات ونعرات (وما أكثرها في عالمنا العربي!)، وهذا الشكل المتطور من قوالب الرواية التاريخية تحديداً رَاكَم نصوصاً ممتازة، منذ أصدر جمال الغيطاني روايته «الزيني بركات» (1969) وحتى رواية أحمد المرسي «مقامرة على شرف الليدي ميتسي»، ورواية باسم خندقجي «قناع بلون السماء» الفائزة أخيراً بالجائزة العالمية للرواية العربية 2024.
في الطور الأخير من مراحل تطور الرواية التاريخية، حدثت طفرة حقيقية على مستوى الشكل والموقف والرؤيا في روايات الربع الأخير من القرن الماضي، والسنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة.
فقد بات من المتفق عليه تقريباً، في أدبيات كتابتها وقراءتها ونقدها على السواء، أن الفنان (الروائي) وعَى أنه «يكتب فنّاً لا تاريخاً»، وإن صور مرحلة تاريخية ما أو توسل بحقبة أو شخصية تاريخية، صار التاريخ لدى كثيرٍ من الروائيين بمثابة «المادة الخام» لرواياتهم التي تطرح هما وسؤالاً معاصراً، ليس من بين ما تقصده أن تعيد كتابة التاريخ أو تقديمه أو تصوير حقبة تاريخية معينة بغرض إبراز ملامحها وخصائصها، لم يعد ذلك كله مما يهم الروائي أو يدخل في غاياته وأهدافه، أبداً!
ومن ثم فهو له الحرية الكاملة في الاختيار من بين المواد التاريخية المتاحة، و«التصور الفني» الحر، مما يمكنه من إعادة خلق الوقائع التاريخية لتعبر عن وجهة نظره التي يريد التعبير عنها فيما يكتب، وليس هناك ما يلزمه - عكس المؤرخ أو الباحث التاريخي - بالالتزام الحرفي سوى بالصدق الفني الذي يعكس مدى قدرته على تقديم تجربته التي يصورها أو عالمه «المتخيل» الذي يشيده.

(5)
لكن الغريب - وعلى ما يبدو- مع طوفان النشر والكتابة الذي غمر عالمنا العربي في السنوات العشر الأخيرة، وبخاصة فيما أطلق عليه أصحابها «رواية تاريخية» أو تعامل معه قراؤها على أنها «رواية تاريخية»، ثمة التباسات عديدة في المفهوم وفي الشكل وفي الغرض الذي تكتب من أجله، وكذلك في طبيعة النصوص نفسها التي تدعي لنفسها أنها كذلك!
عدد ضخم من الروايات التي صدرت في العقد الأخير تكاد تحقق حرفياً المفهوم البدائي للرواية التاريخية كما كان يكتبها جرجي زيدان، فيما بات يشكل ظاهرة غريبة وعجيبة ربما يصح أن نطلق عليها «النكوص والارتداد الفني» بالعودة إلى قوالب كتابة الرواية التاريخية في أشكالها الأشد «بدائية» و«مدرسية» و«تقليدية»، كما لو كان جرجي زيدان قد بعث من قبره وأصبح هناك أكثر من جرجي زيدان في كل مكان من عالمنا العربي!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©