د. نزار قبيلات*
لوهلة قد يظن قارئ هذا العنوان بأنه عنوان يحمل في انثيالاته مغامرة دلالية محسوبة، وينطوي على تعدد مفتوح الدلالة تشير إليه لفظة كلب بصفتها العتبة الأولى للقراءة والمعبر الاستراتيجي للدخول لعالم هذه الرواية الرشيقة التي رُسمت تبعاً لثنائية الأسرة وعمودها: ثنائية سالم الزوج، وليلى الزوجة، لكن ما إن ينهي تصفح الصفحة قبل الأخيرة يكتشف أن العنوان ليس جزءاً مستقلاً بل يوازي وجوده الرواية المتن، فقد بدأت الرواية وانطلق السرد فيها منذ قراءة لفظة كلب مقرونةً بالفاتحة السردية، وللتوضيح فإن العنوان لعب دوراً مهماً في تماسك بداية الرواية وخاتمتها، فقد تعرضت ليلى للعضّ مرتين لقاء وفائها: مرةً من كلب فعلاً، ومرةً أخرى من إنسان كلب لم تكنّ له سوى الحبّ والوفاء، فقد جاء فعل العضّ نظيراً لصفة الوفاء، ما شكَّل تساؤلاً حثيثاً لأبرز الأسئلة الإنسانية التي يمكن إثارتها في عالم الرواية الرّحب والمتسع لكل الثنائيات والإشكالات، فالرّواية فنٌ يمكن أن يُبنى وفقا لـ«مبرتو ايكو» على فكرة ما، أما ما تبقى فلحم يمكن أن نضيفه للكتابة.
لقد امتازت هذه الرواية بالحركية والدرامية إلى حدٍّ كبير، فحدث عضّ الكلب لليلى في صغرها أرعبها ورافقها حتى نشوء أسرتها، فأصاب هذا الداء ابنها ثم في النهاية زوجها السكير العاشق الذي عضها بدوره على إثر خلاف أسري نجم عن لحظة شك، ولكي يحقق جمال مطر كاتب الرواية توازنا في السّرد اعتمد على تقنية التعدد الصوتي القائم على تعدد في الرواة، فراح يقسم مفاصل الرواية إلى عنونة فرعية يكون فيها السارد مرة ليلى أو سالم أو الرّاوي العليم، ولأن مفهوم الأسرة يحوي بيت الأسرة فقد تراخى الوصف في هذه الرواية وقصُرَ عن إبراز المكان الخاص بأسرة ليلى لصالح المكان الجمعي لكل شخوص الرواية، فقط كان الوصف المكاني بأننا في جانب عائلة أنطوني وزوجته التي عشقها سالم تالياً، ولعل السبب يعود أيضا إلى محاولة الكاتب الكشف عن صراعية الرواية بتزويج كلب أسرتهم من كلبة أسرة أنطوني وياسمين فاحشة الثراء التي تسببت العلاقة معها بوقوع سالم في حبها.
في الرواية تبرز الصراعية بفضل حبكة واضحة المعالم يدركها أي قارئ، إذ لم يبالغ جمال مطر في تعقيدها، حبكة تقوم على وقوع (سالم) في حب ياسمين بعد الاحتفال بتزويج كلبيّ العائلة، ويرافق هذه الصراعية كمقياس سردي ناجز في هذا العمل بروز السينمائية من خلال المشاهد التي أحسن الكاتب خلقها، ولعل أكثر المشاهد شدا لما يعرف بمسافة التوتر هي المشاهد التي نقلها لنا الراوي في «فيلا» أسرة طوني ومشهد «عضّ» سالم لزوجته ليلى التي شك بها في تلك اللحظة تحت تأثير الخمر، فأميط اللّثام هنا عن سر العنوان ودلالته الواضحة التي أرادها الكاتب دون مواربة. إذاً فدلالة كلب لا تحتمل أكثر من ذلك التأويل رغم إدراكنا لغنى قاموس الكاتب وشعرية لغته وقدرته على توظيف اللغة التسجيلية والشعرية معاً لإحداث شد وتكثيف في المشهد الذي يحاول تقديمه.
لقد فسح التعدد الصوتي (البوليفونية) في الرواية المجال لكل من ليلى وسالم وأتاح لهما توسيع رقعة الحكاية وإبراز الكثير من التفاصيل التي قد تُرى بسيطة وحقيقية لكنها تغدو شعرية وساحرة في حال مرّرَ عليها روائيٌ بارع بَصره، روائي يستطيع طرح الكثير من التفاصيل والمعالجات الاجتماعية في مكان يبدو غير متسعٍ، فقط برع جمال مطر في تلوين روايته بشيء من أدب البحر والآخر المغترب ورسم طبقات من التجمعات الشبابية الجديدة على البناء المجتمعي الحديث، كما طرح قضية الأسرة في زمن السرعة والصرعات الحديثة. كل هذا سمح بأن نقبل العنوان الذي لم يحمل مفارقة بقدر ما أحدث تماسكاً وتشاكلاً هو الآخر في متن الرواية التي خلت من التوصيف المبالغ الذي لو أسهب فيه جمال مطر لبدت الرواية سمينة ومثقلة، أمّا لغة الرواية فقد كانت متجانسة مع كل صوت سارد، فحملت وجهة نَظرهِ وطرّزت ثوب شخصيته، وإن كان الروائي قد مال في أحايين كثيرة لتبرير بعض الأحداث التي لا يلزم أن يقوم بها، فالروائي غير مطالب بكتابة تقرير أو تقديم بيّنة دفاع، وعلى هذا فإن لغة جمال الشعرية والدرامية في آن تبشر بخير وترسم على لوحة الرواية العربية اسما سيكون له شأن.
فشكراً «جمال مطر» لأنّ العضات التي تأتينا لا تكون غادرة أو مؤلمة وحسب بل لأنها قد تأتي من إنسان قد يخال لنا بأنه أكسير الوفاء والحب.
* أستاذ مشارك السّرديات وتحليل الخطاب جامعة نيويورك أبوظبي