باحتفالات شارك فيها عشرات الآلاف، استقبلت إسبانيا العام الميلادي الجديد مُحتفيةً بتسلمها مقاليد أول رئاسة دورية للاتحاد الأوروبي بعد دخول "معاهدة لشبونة" حيز التنفيذ، حيث رُفعت أعلام الاتحاد في الساحات وعلى المباني الحكومية في مختلف المدن الإسبانية، وجددت مدريد التزامها "القوي" بوحدة أوروبا. وبذلك تدشن إسبانيا عهداً جديداً للاتحاد الأوروبي، مع تسلم رئيس وزرائها خوسي لويس ثباتيرو من نظيره السويدي رئاسة الاتحاد يوم الجمعة الماضي في حفل ضخم أقيم بساحة وسط مدريد، أعرب خلاله ثباتيرو عن الأمل بأن ينجح في إدارة الاتحاد، وبأن يتمكن من "تطبيق سريع وحيوي لمعاهدة لشبونة"، قائلا إن أولويته الكبرى هي "إخراج الاتحاد من الأزمة"، وتعزيز التحسن الاقتصادي الخجول في أوروبا. ويعرف عن ثباتيرو إيمانه بالوحدة الأوروبية، خلافاً لسلفه "أزنار" الذي خلق انحيازه لمحور بوش- بلير انشقاقاً عميقاً داخل الاتحاد الأوروبي، بينما عمل ثباتيرو خلال وجود الرئيس شيراك والمستشار شرودر في منصبيهما، على تعزيز المحور الفرنسي -الألماني، وحاول إشراك إسبانيا بصفة مكثفة في السياسة الخارجية الأوروبية، ودعا إلى إقرار دستور الاتحاد الذي عرقلته مراراً حكومة أزنار. وظهر ثباتيرو على الساحة السياسة الإسبانية في يوليو 2000، حين انتخب أميناً عاماً لـ"الحزب العمالي الاشتراكي"، إثر صراعات مريرة داخل الحزب، فاستطاع أن يفرض الوحدة على أجنحته المتصارعة، وأن يحقق خطاً تصاعدياً لحظوظ الحزب بدءاً من الانتخابات المحلية عام 2003، ثم الانتخابات العامة في العام التالي، وبعدها الانتخابات المحلية لعام 2007، ثم الانتخابات التشريعية لعام 2008. و"الاشتراكي الهادئ"، كما تلقبه الصحافة الإسبانية، هو سليل عائلة يسارية عريقة؛ فهو حفيدُ قائد جمهوريٍ أعدمه فرانكو خلال الحرب الأهلية عام 1936. أما هو فولد عام 1960 في مدينة "فالادوليد" بالشمال الإسباني، حيث تلقى تعليمه في مدارس دينية، ثم التحق بكلية القانون في جامعة "ليون" بالإقليم نفسه، مترسماً خطى والده الذي كان عميداً لكلية المحاماة في جامعة "فالادوليد". وبعد تخرجه عام 1983، عُين ثباتيرو معيداً في الكلية، لكنه توقف عن التدريس عام 1986 حين انتخب نائباً عمالياً في البرلمان عن دائرة "ليون". وقد انضم ثباتيرو إلى "الحزب العمالي الاشتراكي" عام 1979، عندما كان الحزب حاكماً وموحداً بزعامة "غونزاليس"، وتدرج في المواقع إلى أن أصبح الخليفة الثاني لغونزاليس في رئاسة الحزب الذي لطخته حينئذ فضائح الفساد ونسب البطالة المرتفعة خلال 15 عاماً من الحكم. لكن في عام 2004 استطاع ثباتيرو إسقاط حكومة "خوسيه ماريا أزنار"، منهياً حكم المحافظين، وليصبح ثاني رئيس وزراء اشتراكي في إسبانيا منذ سقوط ديكتاتورية فرانكو عام 1975. وقد جاء فوز ثباتيرو في جانب منه، كعقاب من الإسبان لحكومة "الحزب الشعبي" الذين رأوا في تحالفها مع واشنطن ولندن سبباً لتفجيرات مدريد الدامية، كما عارضوا إرسال قوات إسبانية إلى العراق. وهو موقف أفاد منه ثباتيرو الذي أعلن بعد فوزه بالانتخابات العامة، قرار سحب القوات الإسبانية (1300 جندي) من العراق، قائلاً إن مشاركة بلاده في الحرب الأميركية هناك مثلت "خطأ فادحاً منذ البداية". وإذا كان ثباتيرو يباهي بما حققه من إنجازات خلال ولايته الأولى، على الصعيد الاقتصادي، وبإصلاحاته الاجتماعية، وبكونه أعطى مزيداً من الحكم الذاتي للأقاليم... فإن خصومه اليمينيين يقولون إنه لم يستطع حتى المحافظة على المكاسب الاقتصادية المتحققة خلال حكمهم، حيث تراجعت معدلات النمو الاقتصادي من 3.8 في المئة إلى 1.8 في المئة، وزاد عدد العاطلين عن العمل بـ800 ألف شخص... علاوة على فشله في الحد من الهجرة غير الشرعية، وفي التعاطي مع حركة "إيتا" الباسكية التي أوقفت عملياتها عام 2006، لكنها قررت استئناف العمل المسلح بسبب إخفاق الحكومة في التجاوب معها! وفي المجال الخارجي تعرضت طروحات ثباتيرو لضربة موجعة بسبب تغير الزعامة في كل من فرنسا وألمانيا. وبشكل عام فإن مصاعب السنة الأخيرة من ولاية ثباتيرو الأولى دفعته إلى حل البرلمان والدعوة لانتخابات عامة في مارس 2008، حيث حصل حزبه على 169 مقعداً في مجلس النواب الذي يضم 350 نائباً، أي أقل من الأغلبية المطلقة بسبعة مقاعد، لكن بزيادة خمسة مقاعد على نتائجه في انتخابات 2004. أما خلال عشرين شهراً المنقضية من ولايته الثانية، فقد غرقت البلاد في أزمة اقتصادية داخلية خانقة تراجع فيها النمو وارتفع معدل العجز العام ليقارب 7 في المئة، علاوة على معدل بطالة يصل الى 18 في المئة، وهو الأعلى في أوروبا بعد لاتفيا. لذلك تبدأ إسبانيا رئاستها الدورية الرابعة للاتحاد الأوروبي، وهي تمر بأسوأ مرحلة اقتصادية في تاريخها الحديث، جعلت ثباتيرو يعترف في كلمته بمناسبة نهاية العام بأن التدهور الاقتصادي "بلغ حده الأقصى"، وإنْ وعدَ بأنّ عام 2010 سيشهد بداية التحسن. وإذا كان إيجاد حل شافٍ للركود الاقتصادي في إسبانيا وأوروبا عامة، يمثل معضلة لثباتيرو، فإن التباين بين مرئياته اليسارية والمرئيات اليمينية للبلجيكي "هيرمان فان رومبي" الذي انتخب الشهر الماضي أول رئيس دائم للاتحاد، يمثل معضلة أخرى. فمعاهدة لشبونة الموقعة عام 2007، عوضاً عن الدستور الأوروبي الذي رفضته فرنسا وهولندا عام 2005، فرضت إدارة ثنائية يمكن أن تؤدي إلى خلافات، وإن نصت على أن الرئيس الدوري يتولى الرئاسة في كل المجالات باستثناء اجتماعات رؤساء الدول والحكومات التي تعود إلى "رومبي". لكن الاتحاد وافق على ترؤس ثباتيرو لعدة قمم قادمة في إسبانيا؛ منها قمة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأخرى مع دول أميركا اللاتينية، ولقاء بين المغرب والاتحاد من أجل المتوسط... وهي مناطق أساسية تحتل الأولوية في السياسة الخارجية بالنسبة لثباتيرو. ومهما يكن فالمرجح أن تكون رئاسة ثباتيرو للاتحاد الأوروبي رئاسة "واعدة"، إذ أثبتت إسبانيا ذلك خلال ترؤسها للاتحاد ثلاث مرات سابقة؛ من التعاون الأورومتوسطي في برشلونه عام 1995، إلى إقامة "اللجنة الرباعية" في مدريد عام 2002. لكن في خضم التحديات التي تواجهه محلياً وأوروبيا ودولياً، ماذا عسى ثباتيرو أن يفعل؟ محمد ولد المنى