شرق آسيا على الموقد الأمامي
من المرجح أن ينحسر الاهتمام بالشرق الأوسط ويتكثف بشرق آسيا في الأجندة السياسية العالمية. ودوافع هذا التغير في الأجندة كثيرة. وقد يكفي ما يدور على السطح لإقناع صانعي السياسة الدولية الأميركيين والأوروبيين بإجراء هذا التحول. هنا تقفز آخر المستجدات وعلى رأسها قرار "بيونج يانج" بوقف العمل بالاتفاق المعقود مع الأميركيين حول ملفها الذري. ويستطيع الكوريون الشماليون إما امتلاك قنابل ذرية في غضون سنوات قليلة أو أنهم يملكونها فعلًا. وتزامن هذا التطور مع اشتداد الغموض حول مصير القيادة السياسية العليا في البلاد لتصبح أمام الغرب مشكلة أكبر كثيراً من مجرد صُداع.
ولكن ما يحدث في باكستان وأفغانستان هو المادة اليومية الأولى في التقارير الاستراتيجية التي ينتظرها صانع القرار السياسي والاستراتيجي في العالم الغربي. والأرجح أن أكثر الدول الأوروبية والأعضاء في حلف "الناتو" ستقلد فرنسا التي قرر برلمانها تجديد وزيادة حجم وقدرات القوة العسكرية الفرنسية في أفغانستان. وإن انتخب أوباما فسيصبح هذا البلد، وليس العراق، هو الساحة الأولى للعمليات العسكرية للأميركيين وحلف "الناتو".
وبينما تزداد الطمأنينة الغربية والأميركية تحديداً حول واقع ومستقبل الصراع في العراق فهي تتراجع كثيراً حول واقع ومستقبل باكستان. ولاشك أن الضخامة والثقة بالنفس التي تصرف بها الانتحاريون لتفجير مبنى فندق الماريوت في إسلام أباد قد أنعشت أسوأ المخاوف حول مصير باكستان. ويشيع الاعتقاد في الأوساط السياسية والاستراتيجية في الغرب وفي آسيا أيضاً بأن مشكلة باكستان لا صلة لها بمنطقة القبائل، أو بالقوة المفترضة لما يسمى بـ"طالبان" باكستان على أهميتهما. فالمشكلة الحقيقية، في رأي هذه الأوساط، تكمن في الأجهزة الأمنية العليا في باكستان. وتستطيع هذه الأجهزة أن تدبر ما تشاء من عمليات اغتيال ناجحة، أو عمليات ضخمة، وقد تكون أكبر من تلك التي فجرت فندق الماريوت. والمشكلة هنا ليست في أن الأجهزة الأمنية تمتلئ بالمتطرفين، بل في أن الاستعانة بهم هي من العقائد المتجذرة في استراتيجياتها. ولا تقل هذه العقائد أهمية عن الاعتقاد بأنها -أي هذه الأجهزة وحدها- هي المستحقة الوحيدة للسيادة على باكستان وإدارة دفة الحكم فيها، وأن المدنيين عموماً و"حزب الشعب" بالذات ليسوا سوى دخلاء هواة على بلد يخوض في رأيهم صراع وجود. فإن كان هناك صدام حقيقي بين الفرع السياسي والفرع الأمني الاستراتيجي للسلطة فإن مصير القيادة الحالية في مهب الريح. وقد تكفي عملية اغتيال واحدة أو أكثر لقمة القيادة الجديدة لتهز استقرار هذا البلد بعمق. وقد تدفعه تغييرات إجبارية في قمة السلطة وفي الشخصيات القيادية إلى متاهة لا يعلم أحد متى وإلى أين تنتهى؟
وتتضاعف المشكلة أمام الأميركيين والغرب عموماً لأن الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الباكستانية تقوم بلعبة مزدوجة وعالية الكفاءة. فهي تريد الإفادة من شعار الحرب ضد الإرهاب وتضع نفسها في طليعة الحلفاء ضد الإرهاب ولكنها في نفس الوقت تحرص تماماً على بقاء هذا "الخطر" مشتعلًا! والهدف بالطبع هو التلاعب بالمخاوف الأميركية والأوروبية من الإرهاب مما يعزز المكانة المفترضة لباكستان! وعلى رغم شكاوى الأميركيين من تطبيق هذه الاستراتيجية في عهد مشرّف فلم يكن بمقدورهم سوى القبول بما يفعله العسكريون الباكستانيون مهما كان في نظرهم مزدوجاً وغير ذي قيمة من الناحية الاستراتيجية.
ويبدو أن ما تفعله الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية الباكستانية هو ما يعكس فعلًا الندرة المتزايدة للأوراق الاستراتيجية بيد باكستان. وقد يكون هو منهج هذه الأجهزة في التعامل مع التعاون الاستراتيجي والسياسي المتزايد بين الأميركيين والهند. وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً، بمعنى أن الأميركيين وجدوا أن تكثيف تعاونهم الاستراتيجي مع الهند، وخاصة فيما يتصل بالسلاح الذري، هو طريقتهم في الانتقام من أو تطويع الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية الباكستانية العازفة عن التعاون الأصيل في القضاء على الإرهاب وهزيمة "طالبان" الأفغانية.
ومع أن القلق حول مصير "الحرب ضد الإرهاب" هو أهم موضوع على الأجندة اليومية لصناع السياسة الغربيين فقد لا يكون أهم دافع لانتقال الاهتمام من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا. وأهم الدوافع قد تكون تقييد الانطلاق الاقتصادي الصيني!
ويبدو أن الصينيين لم ينتبهوا بعد، أو أنهم سيأخذون على غرة، إن بدأت حرب تجارية حقيقية ضدهم في أهم وأضخم أسواقهم في الولايات المتحدة وأوروبا. ذلك أنهم فعلاً لم يبدوا الاهتمام الواجب بضبط مصنوعاتهم للحفاظ على حد أدنى من حسن السمعة. ولذلك فإن سلسلة من الفضائح قد لا تدمر سمعة الصناعة الصينية وحدها، بل والمصداقية الاقتصادية والمكانة الدولية لهذا البلد الجبار. واليوم فإن فضيحة لبن الأطفال المغشوش الذي أدى لمرض عشرات الآلاف من الصينيين وفي مناطق أخرى من آسيا قد تكون القشة التى قصمت ظهر البعير. فهي من ناحية عصفت ببقية الطمأنينة فيما يخص المواصفات الصحية والبيئية للمصنوعات الصينية. ومن الطريف أن الفضيحة في هذه الحالة عصفت بسمعة عدد من أهم الشركات الغربية العملاقة التي تصنع منتجاتها في الصين مما قد يقود لتوقف الاستثمارات الأجنبية التى تتدافع بحمية للصين. ومن ناحية ثانية تصور الدعاية الغربية أن المشكلة ليست مجرد مصنوعات رديئة أو خطرة وإنما في عجز وتخلف وتسيب أجهزة الرقابة الصينية، وهو ما يقود في النهاية لضرب الصادرات الصينية في الأسواق الغربية. ويعزز هذا الاعتقاد أن سمعة الصادرات الصينية وخاصة من المنتجات الاستهلاكية ضربت في الصميم، وأنها كسبت لنفسها سمعة الزيف فضلاً عن التقليد. والطريف أن الصين بدأت تحتل الموقع اللغوي الذي احتلته تايوان من قبل للدلالة في اللغة اليومية للمصريين على ما هو زائف أو قاصر أو "مضروب" وغير ذي فائدة.
وإن تواصلت أزمة المصنوعات الصينية فسيكون من السهل للغاية، وبدون أن تظهر هذه السياسة كمؤامرة، وقف زحف الصين على المستوى الاقتصادي. فالصين تنمو بمعدلات كبيرة وتطمح لاحتلال موقع الدولة الأضخم من الناحية الاقتصادية في غضون ربع قرن على الأكثر من الآن. بل قد يكون من السهل أيضاً وقف زحفها على مستوى السياسة الدولية. ولاشك أن الموقف الصيني المتردد والرافض لتوجيه ضربة عسكرية أميركية أو إسرائيلية ضد إيران يلفت نظر الغرب، وقد يدعوه لمراجعة سياسة دعم الاقتصاد الصيني. فرغم أن الصين بدأت بالكاد وعبر سياسة فيها حرص زائد على نشر نفوذها السياسي وخاصة في أفريقيا فهي تمثل خطراً سياسياً كبيراً وخاصة إن اختارت يوماً ما التحالف مع روسيا لتشكيل حلف مضاد أو موازن للغرب. ولاشك أن هذه المسألة صارت تحتل موقع الصدارة في الاستراتيجية الأميركية العالمية.
وتبدو عملية نقل الاهتمام من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا وكأنها تصحيح لخطأ كبير وقعت فيه الاستراتيجيات الأميركية بسبب المبالغة في رد الفعل على أحداث 11 سبتمبر. فعلى رغم ما عنته وأدت إليه هذه الأحداث من الناحية النفسية فهي لا تكشف عن تهديد حقيقي أو كبير بالمقارنة بالقوى الاستراتيجية الكبيرة في آسيا، والتي قد تتحول من التعاون إلى الصراع مع الغرب. والطريف أن "الجمهوريين" بالذات كانوا دائمي النقد للسياسات الأميركية في عهد "الديمقراطيين" من حيث إهمال المصالح الحقيقية الكبيرة في آسيا والمبالغة في تركيز السياسة الخارجية على منطقة الشرق الأوسط. والآن ينتقل "الديمقراطيون" في ظل أوباما للهجوم المضاد على إرث بوش في السياسة الخارجية والذي لا تكاد أية منطقة تظهر فيه سوى الشرق الأوسط.. وبدون تحقيق أية نتائج بناءة على الإطلاق تقريباً.