جاءت فترة على التراث الشعبي أصبحت فيها كل قرية أو زاوية تمثل نزوعاً إلى التعبير عن ذاتها الخاصة، كوحدة اجتماعية، أي بوصفها قبيلة أو محافظة أو كيانا مكتفياً بذاته. وقد نتج عن ذلك وجود أجواء صراعية أحياناً، وأجواء سلام اجتماعي أحياناً أخرى.
وفي الحالتين، كانت جماعات صغيرة تحاول إرسال إيحاءات بأنها كيانات مجتمعية ذات تكوين ثقافي خاص بها، وبأنها قادرة على أن تكون ذات هوية مركبة. ويرتبط ذلك بالطبع بقدرة كل مجموعة على إنشاء جماعة اجتماعية ذات طابع خاص تمتلك من خلالها قدرةً على خلق الأشكال الشعبية من فنون بصرية وعناصر هوية ثقافية.
وتتجه الثقافة الشعبية في هذه الحالة إلى إبداعاتها، فتضع أمام المجتمع صوراً من تنوع الإبداع تبدو أحياناً ذات أصول قديمة تنضم لعالم الآثار والتاريخ الأثري أو الحجري، وفى أحيان أخرى تنتمي إلى التاريخ الحديث.. مما يعطي للمجموعة نفَساً جديداً يجعل من التراث الشعبي الحديث إنتاجاً ذا معنى قابل للتأقلم مع الحداثة كما كان قابلا للأثرية والحجرية يوماً ما.
والثقافة الشعبية قادرة دائماً على إعطاء تشكيلات من التنوع والإبداعات بحكم قدرة الجماعات الشعبية نفسها على الإبداع، وتنويع أنماط حضورها الاجتماعي، فتعطي أحياناً قدرةً على التعبير عن القديم الذي يصعب فك رموزه، وأحياناً أخرى تصبح من عناصر التثبيت المدني في صلب الحداثة!
وتميل بعض المجتمعات الآن إلى صياغة معظم أشكال حياتها على غرار أنماط من الحداثة، مبقيةً فقط بعض القديم لـ«المفاخرة» الاجتماعية أو للاحتفاظ به كرمز للأصول الاجتماعية والتاريخية.
وتأتى الثقافة الشعبية أحياناً لتضع نفسها موضع «الظاهرة الاجتماعية» السارية في المجتمع، فتخرج بنفسها من «عباءة الشعبية» إلى عباءة الحياة العامة. وهنا يتاح للعديد من «المجموعات الاجتماعية» أن تصبح بمثابة ثقافة عامة، وليس مجرد مجموعات مجتمعية ذات هوية فرعية؛ لأن المجموعات الشعبية تكتسب صفات خاصة ينطبق عليها مفهوم التنوع الثقافي.
وتلعب «علوم الآثار» هذه الأيام دوراً مرتبطاً بالسياحة، قد يبتعد بها عن قواعدها العلمية التي كان يُفهم منها الكثير حول القديم والحديث، وليس فقط مفهوم التنوع الثقافي الذي كثيراً ما ينشغل به الدارسون.
لقد فرض التنوع الثقافي نفسه كمنظور إنساني يصل لأبعد من مجرد الحديث حول تنوع قيمي داخل المجتمع الواحد، إذ بات من حقائق الحياة الاجتماعية العامة التي يفرزها وجود مجموعات وجماعات مجتمعية، بغض النظر عن التصنيفات الاجتماعية التقليدية.
إن تراث الثقافة الشعبية وتنويعاته أصبح من عناصر «الملكية العامة» في المجتمع، وبات غير قاصر على معنى الثقافة الشعبية بقدر ما أصبح يبث أشكالاً من الإبداع تستخرج منها الفئات الاجتماعية المختلفة ألواناً من الأفكار والانطباعات وعناصر الانتماء.
لم يعد ممكناً أن تصير الثقافة الشعبية مصدراً وحيداً للبهجة بين أوسع الجماهير؛ لأن الحياة أصبحت أوسع مجالاً، ولن يستطيع تراث الثقافة الشعبية أن يملأ حياة الناس التي يتوقعونها للمستقبل، بقدر ما يرونها مختلفة عما عاشوه في الماضي، فقد كان الماضي آمناً وفي حالة ثبات واستقرار سيطر عليها واقع عاشه أهل الماضي في وقتهم.
وقد شغلت ثقافة التنمية مختلف الأجيال، خاصة حين تتخذ نمط الثقافة الشعبية التي يمكنها أن تلف عوالم من القوى البشرية تجعل من الفنون والآداب الشعبية حقيقة حية بين الناس، ترتبط برغبة شعبية واسعة النطاق لإسعاد البشر كما يرغبون.
إن جعل الثقافة الشعبية أداة للتنمية، بفعل ما باتت الآن تحققه لصالح التنمية البشرية وتنوعها، بل وما تشهد به إنجازاتها.. جعل الشهود عليها يتألمون أحياناً للسلبيات المسجلة في هذا الجانب، بقدر ما يستشعرون الأمل في الإيجابيات الكامنة في ذلك التوظيف الثقافي التنموي.
إن أشكال الائتلاف والترابط والتفكك والتجمع.. اقترنت بأشكال التنوع الذي يشير إليه عنوان هذا المقال. وفي الوقت نفسه، فإننا نرى تكوينات اجتماعية من نمط آخر تتشكل في هيئة وحدات قبلية أو إثنية.. وقد أثرت هذه القابلية للتنمية في حياة البشر، الاجتماعية والاقتصادية والفنية، وصولاً إلى ما اعتبرناه في الأعوام الأخيرة انفجاراً في التكوينات الاجتماعية داخل الريف والمدن معاً. فثمة رضى عما حدث حتى الآن من مكاسب في مجال التنوع الذي أتاح ما ذكرناه آنفاً. وثمة رؤى أخرى جعلت من تنوع أنماط التنمية ضرباً من الاستعداد لتشكيل أنماط اندماجية مختلفة.
وقد تراوحت مسألة أثر الثقافة الشعبية في تنميط سياسات التنمية المطلوبة، وفق ما أثير حول التنوع الثقافي وعلاقته بتجديد الأنماط المجتمعية.
*مدير مركز البحوث العربية والأفريقية -القاهرة