من كان في زيارة لفرنسا هذه الأيام، فلعله يكون قد عاش مرارة الشلل شبه الكلي الذي أصاب حركة النقل الجوي والبري والبحري والمؤسسات الأخرى، بسبب تواصل الإضرابات ضد إصلاح نظام التقاعد، في محاولة من النقابات والمضربين لجعل الحكومة ترضخ لمطالبهم وإيقاف «النظام الشامل» للتقاعد الذي يُفترض أن يحل اعتباراً من عام 2025، محل 42 نظاماً تقاعديا خاصاً معمولا بها حالياً.
ولا أظن أن هذه الإضرابات ستتوقف، إذ ستعرف موجات متكررة في موضوع يشغل بال الشباب والكبار وصغار السن لأن الكل معني بالتقاعد والكل يفكر في اليوم الذي سيبلغ فيه ذلك السن.
كما أن ظاهرة المظاهرات والإضرابات بهذا الشكل تعد ظاهرة فرنسية أولا، وهي «سمة» لا تكاد تشاركها فيها دولة أوروبية أخرى. ومما يثير الاستغراب أن المظاهرات والإضرابات تتم رغم أن هذا النظام الشامل لم ينشر بعد ولا أحد يعرف حيثياته ولا ما في التعديلات من آثار إيجابية أو سلبية! وعندما تكون هذه المظاهرات عامة فإن حركة المواصلات تتوقف في باريس ويصعب التنقل من مدينة إلى أخرى، ويبقى الأجانب في الفنادق والمطارات في حيرة من أمرهم، وتُغلق الجامعات والمؤسسات التعليمية، وتتوقف المنتديات الدولية المنعقدة وتُلغى تلك التي بدأت، ولا مناص من التوفر على دم بارد وميزانية مالية إضافية للأجانب حتى يستطيعوا تغيير تذاكر الطائرة ودفع مصاريف الأكل والإقامة الفندقية الإضافية.
وقد تغاضت الحكومات المتتالية عن إصلاح جذري لنظام التقاعد، لأنه موضوع حساس ولأنها تعي أنها لو فتحته فستفتح عليها أبواب جهنم، خاصة إذا كان في موعد قريب من الانتخابات، ونتذكر المظاهرات والتحركات الاجتماعية بشأن التقاعد في أعوام 1995 و2003 و2010.
وبالنسبة للرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون الذي جعل من «تغيير المياه الراكدة» هدفاً لعهده، تبدو الأيام المقبلة حاسمةً بل وخطيرة على المستقبل السياسي لحزبه، فالحكومة تجازف في سياق اجتماعي متوتر أصلا، مع تحركات محتجي «السترات الصفراء» المتواصلة منذ أكثر من سنة، وتفاقم الإضرابات والاستياء العام في المستشفيات وفي صفوف الطلاب وعمال سكك الحديد والشرطة ورجال الإطفاء والأساتذة والمزارعين.. إلا أن هذا الإضراب يحمل إلى الشوارع حصته من التوترات والصعوبات خصوصاً بالنسبة لمستخدمي وسائل النقل المشترك في باريس.
ووعد رئيس الوزراء الفرنسي إداور فيليب بأنه سيعرض قريباً «مشروع الحكومة كاملا»، وشدد على أنه ليس «في منطق المواجهة». وقالت إحدى النقابات المؤثرة إن «الجدول الزمني انقلب رأساً على عقب، لكن لا شيء تغيّر على صعيد هدف الحكومة، وهو كسر نظامنا التقاعدي الصلب عبر استبداله بنظام فردي سيكون في ظله كل عامل خاسراً».
وسبق وأن كتبنا منذ سنتين أنه لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، لم يصل اليسار ولا اليمين إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية التي حظيت بتغطية إعلامية عالمية قل نظيرها.. فوصل حزب الوسط الجديد بقيادة الشاب الذكي ماكرون، الذي كان يعمل مستشاراً للرئيس هولاند في قصر الإليزيه قبل أن يعينه وزيراً للمالية، وقبل أن ينقلب بحرفية وذكاء على الدولة العميقة الفرنسية.. ثم وصل الحزب اليميني بزعامة «لوبين» إلى الدورة الثانية للانتخابات، وهو حزب يعارض توافد المهاجرين بكل أصنافهم.. وصل هذان التوجهان إلى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، ثم فاز ماكرون بعرش الإليزيه، ولم يصل اليمين ولا اليسار إلى الحكم لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق في أفكارهم.. مما أحدث زلزالا في تاريخ الجمهورية الخامسة وفي مصير الدولة الفرنسية.
وبيت القصيد هنا أن مسألة الثقة هي أحد المحددات التي تطبع مسار تكوين دولة المؤسسات.. ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من بلد إلى آخر، فإن تماسكها وقوتها يكمنان أولا وقبل كل شيء في الثقة، ويقيني أن انعدام هذه الثقة سيطال الجميع في فرنسا، مما ينذر بمجال سياسي عام معقّد.
ولا أظن أن هذه الإضرابات ستتوقف، إذ ستعرف موجات متكررة في موضوع يشغل بال الشباب والكبار وصغار السن لأن الكل معني بالتقاعد والكل يفكر في اليوم الذي سيبلغ فيه ذلك السن.
كما أن ظاهرة المظاهرات والإضرابات بهذا الشكل تعد ظاهرة فرنسية أولا، وهي «سمة» لا تكاد تشاركها فيها دولة أوروبية أخرى. ومما يثير الاستغراب أن المظاهرات والإضرابات تتم رغم أن هذا النظام الشامل لم ينشر بعد ولا أحد يعرف حيثياته ولا ما في التعديلات من آثار إيجابية أو سلبية! وعندما تكون هذه المظاهرات عامة فإن حركة المواصلات تتوقف في باريس ويصعب التنقل من مدينة إلى أخرى، ويبقى الأجانب في الفنادق والمطارات في حيرة من أمرهم، وتُغلق الجامعات والمؤسسات التعليمية، وتتوقف المنتديات الدولية المنعقدة وتُلغى تلك التي بدأت، ولا مناص من التوفر على دم بارد وميزانية مالية إضافية للأجانب حتى يستطيعوا تغيير تذاكر الطائرة ودفع مصاريف الأكل والإقامة الفندقية الإضافية.
وقد تغاضت الحكومات المتتالية عن إصلاح جذري لنظام التقاعد، لأنه موضوع حساس ولأنها تعي أنها لو فتحته فستفتح عليها أبواب جهنم، خاصة إذا كان في موعد قريب من الانتخابات، ونتذكر المظاهرات والتحركات الاجتماعية بشأن التقاعد في أعوام 1995 و2003 و2010.
وبالنسبة للرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون الذي جعل من «تغيير المياه الراكدة» هدفاً لعهده، تبدو الأيام المقبلة حاسمةً بل وخطيرة على المستقبل السياسي لحزبه، فالحكومة تجازف في سياق اجتماعي متوتر أصلا، مع تحركات محتجي «السترات الصفراء» المتواصلة منذ أكثر من سنة، وتفاقم الإضرابات والاستياء العام في المستشفيات وفي صفوف الطلاب وعمال سكك الحديد والشرطة ورجال الإطفاء والأساتذة والمزارعين.. إلا أن هذا الإضراب يحمل إلى الشوارع حصته من التوترات والصعوبات خصوصاً بالنسبة لمستخدمي وسائل النقل المشترك في باريس.
ووعد رئيس الوزراء الفرنسي إداور فيليب بأنه سيعرض قريباً «مشروع الحكومة كاملا»، وشدد على أنه ليس «في منطق المواجهة». وقالت إحدى النقابات المؤثرة إن «الجدول الزمني انقلب رأساً على عقب، لكن لا شيء تغيّر على صعيد هدف الحكومة، وهو كسر نظامنا التقاعدي الصلب عبر استبداله بنظام فردي سيكون في ظله كل عامل خاسراً».
وسبق وأن كتبنا منذ سنتين أنه لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، لم يصل اليسار ولا اليمين إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية التي حظيت بتغطية إعلامية عالمية قل نظيرها.. فوصل حزب الوسط الجديد بقيادة الشاب الذكي ماكرون، الذي كان يعمل مستشاراً للرئيس هولاند في قصر الإليزيه قبل أن يعينه وزيراً للمالية، وقبل أن ينقلب بحرفية وذكاء على الدولة العميقة الفرنسية.. ثم وصل الحزب اليميني بزعامة «لوبين» إلى الدورة الثانية للانتخابات، وهو حزب يعارض توافد المهاجرين بكل أصنافهم.. وصل هذان التوجهان إلى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، ثم فاز ماكرون بعرش الإليزيه، ولم يصل اليمين ولا اليسار إلى الحكم لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق في أفكارهم.. مما أحدث زلزالا في تاريخ الجمهورية الخامسة وفي مصير الدولة الفرنسية.
وبيت القصيد هنا أن مسألة الثقة هي أحد المحددات التي تطبع مسار تكوين دولة المؤسسات.. ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من بلد إلى آخر، فإن تماسكها وقوتها يكمنان أولا وقبل كل شيء في الثقة، ويقيني أن انعدام هذه الثقة سيطال الجميع في فرنسا، مما ينذر بمجال سياسي عام معقّد.