على الرغم من دعاوى ومطالبات حركات الإسلام السياسي، لا توجد دولة عربية اعتمدت في نظامها الدستوري مسلك العلمانية في إقصائها الدين من الشأن العمومي، ولا حتى لبنان التي تبنت خط التعددية الدينية والطائفية نظاماً دستورياً.
وقد اختلفتُ مرة مع المفكر الراحل، محمد أركون، الذي كان يرى أن شرط تحديث المجتمعات العربية وتحريرها ديمقراطياً هو تبني المنظومة العلمانية، فنبهته إلى أن تخلي الدولة عن الشأن الديني يؤدي إلى استحواذ الجماعات المتطرفة عليه، بما يشوهه ويحوله إلى معول لهدم كيان الدولة، وتقويض السلم الأهلي والاجتماعي.
وبالرجوع إلى التجارب العالمية الحديثة، يتعين التمييز بين جوانب ثلاثة متمايزة في علاقة الدين بالدولة: يتعلق أحدها بالسمة المؤسسية للدين، ويتعلق ثانيها باعتبارات الهوية المجتمعية، ويتعلق ثالثها بمستوى الوعي والاعتقاد.
في الجانب الأول، لا بد من التمييز بين التجربة المسيحية، التي ظهر فيها منذ بدايات تشكلها شرخ قوي بين المؤسسة الكنسية، التي تدير الوعي وتقنن الاعتقاد وتضبط السلوك، والمؤسسة السياسية المستقلة تشريعاً وحكماً. وعلى الرغم أن الدراسات الاجتماعية منذ ماكس فيبر تميل إلى تفسير خصوصية المجتمعات الغربية في اعتمادها للنظم العلمانية بالخلفية اللاهوتية المسيحية، إلا أن الخلفية العقدية التاريخية لا تفيد أكثر من ازدواجية النظامين الديني - السياسي، بينما الإشكال الذي طرح في الحداثة السياسية هو مفهوم السيادة، الذي يعني ترجمة هذه الازدواجية في شكل قانوني يضمن هيمنة الدولة الكلية على الشأن العمومي، بما ينجر عنه ضرورة اختزال الدين في دائرة الوعي الفردي ضمن نسق تعددي حر. وكما بين طلال أسد أن المشكلة التي أدى إليها هذا التصور ليس الصياغة الكونية للحل العلماني الأوروبي، وإنما بلورة تصور اجتماعي وانتروبولوجي أحادي للدين لا ينسجم مع الديانات غير المسيحية، التي لا تفهم الاعتقاد في دلالة الوعي الذاتي الفردي، كما هو شأن الإسلام مثلاً الذي تشكل فيه العبادة الجماعية المدلول الحقيقي للتدين، ومن ثم تقليص الدور السياسي في تدبير الحقل الديني إلى حدود الرعاية العامة لا التجسيد البشري للحاكمية الإلهية (على عكس ما توهم المودودي وسيد قطب). فما دام الدين المؤسسي لا يمكن أن يكون منافساً للدولة، ولا بديلاً عنها، فلا معنى للحل العلماني الكلاسيكي في السياق الإسلامي، والخطر كله هو تسييس الدين وأدلجته أي تحويل الدين إلى سلطة سياسية بديلة عن المنظومة الروحانية الأخلاقية للدين.
أما الجانب الثاني، فيقتضي التمييز بين الدول والمجتمعات التي يشكل الدين فيها مقوم الهوية الجماعية والسياقات الأخرى، التي لا بد أن تضمن فيها دولة محايدة تعايش وحرية المنظومات العقدية والدينية (كما هو شأن فرنسا مثلاً). فعلى الرغم من اعتماد بريطانيا واليونان للنظام الدستوري الليبرالي إلا أنهما بلدان أوربيان يعتمدان كنيسة رسمية للدولة من منظور الهوية الجماعية لا الاعتبارات القانونية التشريعية، كما أن بعض البلدان الآسيوية، مثل كمبوديا وبوتان، تعتمد البوذية ديانة للدولة من المنظور نفسه، ووضع روسيا في خلفيتها الأرثودكسية معروف. ومن البديهي أن الإسلام في أبعاده الأهلية والاجتماعية مقوم محوري في هوية البلدان العربية، وهو أحياناً المرتكز الأوحد للبناء الاجتماعي في حالة التعددية العرقية أو القبلية، كما هو الاتجاه الغالب على بلدان شمال أفريقيا. ولقد بين هشام جعيط أن الدولة التاريخية العربية خرجت من رحم الإسلام، والتبست به في شرعيتها وعلاقتها بالمجتمع وهو وضع لا يمكنها الخروج منه، وإنْ كان ليس مانعاً لتحديثها وتطورها ما دام الأمر يتعلق بالمتخيل والرمزية لا البناء الأيديولوجي والتنظيم السياسي. ومن هنا مقترح القانوني التونسي والوزير السابق الراحل، محمد الشرفي، لتقنين رعاية الدولة في المجتمعات المسلمة للحقل الديني، الذي هو من مقومات اشتغالها من منظور تدبيرها الشأن الجماعي العمومي، على عكس المألوف السائد في الدول الليبرالية الغربية، حيث توجد مؤسسة كَنسية موحدة وصلبة قادرة على أداء هذه المهمة.
أما الجانب الثالث المتعلق بالوعي، فقد أصبح في أيامنا مدار جدل واسع إثر النقاش الفلسفي الواسع، الذي فجرته نظرية «هابرماس»، حول الحالة ما بعد العلمانية. فإذا كانت الدولة الليبرالية تقوم على مصادرة إجرائية للخير العمومي لضمان شروط الحرية المتساوية بين مواطنيها، إلا أن هذه المصادرة تتأسس على وهمين: هما إمكانية تعليق المعتقدات الكونية والأخلاقية الجوهرية، وخلو هذه المعتقدات من المضامين العقلية الكونية. ومن هنا، فإن الخطر ليس هو اعتماد الدولة تصوراً قبلياً للخير العمومي (دينياً أو فلسفياً)، بل تحويل هذا التصور إلى مذهب أيديولوجي مغلق، يفرض بالقوة على الناس كما هو الشأن في الأنظمة الشيوعية سابقاً، والأنظمة الأيديولوجية القومية والإسلاموية في عالمنا العربي والإسلامي.
وقد اختلفتُ مرة مع المفكر الراحل، محمد أركون، الذي كان يرى أن شرط تحديث المجتمعات العربية وتحريرها ديمقراطياً هو تبني المنظومة العلمانية، فنبهته إلى أن تخلي الدولة عن الشأن الديني يؤدي إلى استحواذ الجماعات المتطرفة عليه، بما يشوهه ويحوله إلى معول لهدم كيان الدولة، وتقويض السلم الأهلي والاجتماعي.
وبالرجوع إلى التجارب العالمية الحديثة، يتعين التمييز بين جوانب ثلاثة متمايزة في علاقة الدين بالدولة: يتعلق أحدها بالسمة المؤسسية للدين، ويتعلق ثانيها باعتبارات الهوية المجتمعية، ويتعلق ثالثها بمستوى الوعي والاعتقاد.
في الجانب الأول، لا بد من التمييز بين التجربة المسيحية، التي ظهر فيها منذ بدايات تشكلها شرخ قوي بين المؤسسة الكنسية، التي تدير الوعي وتقنن الاعتقاد وتضبط السلوك، والمؤسسة السياسية المستقلة تشريعاً وحكماً. وعلى الرغم أن الدراسات الاجتماعية منذ ماكس فيبر تميل إلى تفسير خصوصية المجتمعات الغربية في اعتمادها للنظم العلمانية بالخلفية اللاهوتية المسيحية، إلا أن الخلفية العقدية التاريخية لا تفيد أكثر من ازدواجية النظامين الديني - السياسي، بينما الإشكال الذي طرح في الحداثة السياسية هو مفهوم السيادة، الذي يعني ترجمة هذه الازدواجية في شكل قانوني يضمن هيمنة الدولة الكلية على الشأن العمومي، بما ينجر عنه ضرورة اختزال الدين في دائرة الوعي الفردي ضمن نسق تعددي حر. وكما بين طلال أسد أن المشكلة التي أدى إليها هذا التصور ليس الصياغة الكونية للحل العلماني الأوروبي، وإنما بلورة تصور اجتماعي وانتروبولوجي أحادي للدين لا ينسجم مع الديانات غير المسيحية، التي لا تفهم الاعتقاد في دلالة الوعي الذاتي الفردي، كما هو شأن الإسلام مثلاً الذي تشكل فيه العبادة الجماعية المدلول الحقيقي للتدين، ومن ثم تقليص الدور السياسي في تدبير الحقل الديني إلى حدود الرعاية العامة لا التجسيد البشري للحاكمية الإلهية (على عكس ما توهم المودودي وسيد قطب). فما دام الدين المؤسسي لا يمكن أن يكون منافساً للدولة، ولا بديلاً عنها، فلا معنى للحل العلماني الكلاسيكي في السياق الإسلامي، والخطر كله هو تسييس الدين وأدلجته أي تحويل الدين إلى سلطة سياسية بديلة عن المنظومة الروحانية الأخلاقية للدين.
أما الجانب الثاني، فيقتضي التمييز بين الدول والمجتمعات التي يشكل الدين فيها مقوم الهوية الجماعية والسياقات الأخرى، التي لا بد أن تضمن فيها دولة محايدة تعايش وحرية المنظومات العقدية والدينية (كما هو شأن فرنسا مثلاً). فعلى الرغم من اعتماد بريطانيا واليونان للنظام الدستوري الليبرالي إلا أنهما بلدان أوربيان يعتمدان كنيسة رسمية للدولة من منظور الهوية الجماعية لا الاعتبارات القانونية التشريعية، كما أن بعض البلدان الآسيوية، مثل كمبوديا وبوتان، تعتمد البوذية ديانة للدولة من المنظور نفسه، ووضع روسيا في خلفيتها الأرثودكسية معروف. ومن البديهي أن الإسلام في أبعاده الأهلية والاجتماعية مقوم محوري في هوية البلدان العربية، وهو أحياناً المرتكز الأوحد للبناء الاجتماعي في حالة التعددية العرقية أو القبلية، كما هو الاتجاه الغالب على بلدان شمال أفريقيا. ولقد بين هشام جعيط أن الدولة التاريخية العربية خرجت من رحم الإسلام، والتبست به في شرعيتها وعلاقتها بالمجتمع وهو وضع لا يمكنها الخروج منه، وإنْ كان ليس مانعاً لتحديثها وتطورها ما دام الأمر يتعلق بالمتخيل والرمزية لا البناء الأيديولوجي والتنظيم السياسي. ومن هنا مقترح القانوني التونسي والوزير السابق الراحل، محمد الشرفي، لتقنين رعاية الدولة في المجتمعات المسلمة للحقل الديني، الذي هو من مقومات اشتغالها من منظور تدبيرها الشأن الجماعي العمومي، على عكس المألوف السائد في الدول الليبرالية الغربية، حيث توجد مؤسسة كَنسية موحدة وصلبة قادرة على أداء هذه المهمة.
أما الجانب الثالث المتعلق بالوعي، فقد أصبح في أيامنا مدار جدل واسع إثر النقاش الفلسفي الواسع، الذي فجرته نظرية «هابرماس»، حول الحالة ما بعد العلمانية. فإذا كانت الدولة الليبرالية تقوم على مصادرة إجرائية للخير العمومي لضمان شروط الحرية المتساوية بين مواطنيها، إلا أن هذه المصادرة تتأسس على وهمين: هما إمكانية تعليق المعتقدات الكونية والأخلاقية الجوهرية، وخلو هذه المعتقدات من المضامين العقلية الكونية. ومن هنا، فإن الخطر ليس هو اعتماد الدولة تصوراً قبلياً للخير العمومي (دينياً أو فلسفياً)، بل تحويل هذا التصور إلى مذهب أيديولوجي مغلق، يفرض بالقوة على الناس كما هو الشأن في الأنظمة الشيوعية سابقاً، والأنظمة الأيديولوجية القومية والإسلاموية في عالمنا العربي والإسلامي.