يمثل التزوير خطراً داهماً ومدمراً في أي مجتمع ينتشر أو يتفاقم فيه، فما بالك إذا كان هذا التزوير يتعلق بالشهادات العلمية، خاصة شهادات الماجستير والدكتوراه، التي يفترض أن أصحابها يمثلون النخبة التي يُعوَّل عليها في قيادة المجتمع نحو التطور والترقي والنمو في المجالات المختلفة؛ ففي هذه الحالة نكون إزاء جريمة تدمر الحاضر والمستقبل معاً، وتعصف بكل معاني الكفاءة والاجتهاد والجدارة والمنافسة الشريفة، في وقت تعول فيه القيادة بالمنطقة، وفي مقدمتها القيادة في دولة الإمارات العربية المتحدة، على التعليم والبحث العلمي الرصين والكوادر المؤهلة؛ لقيادة مسيرة التنمية في العصر المقبل، عصر ما بعد النفط الذي أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، أهمية الاستعداد له من الآن، من خلال الاستثمار في التعليم.
لقد تم اكتشاف عشرات الحالات في أكثر من بلد من بلدان دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لشهادات مزوَّرة أو وهمية في تخصصات مختلفة، يعود بعضها إلى مسؤولين ومديرين وأصحاب مناصب ووظائف مهمَّة، خلال الفترة الماضية، ما يؤكد أننا إزاء ظاهرة متفاقمة ومتضخمة، ومن ثم تحتاج إلى وقفة جادَّة من الجهات المتخصصة، قبل أن تتحول إلى مرض خبيث ينتشر في الجسد الخليجي، ومعول يهدم كل تطور أو تقدم، ويفرغ أي حديث عن العلم ودوره في نهضة بلادنا من مضمونه الحقيقي، والخطير في الأمر أن هذه الظاهرة ليست حديثة أو مفاجئة؛ وإنما هي مستمرة وتتزايد منذ سنوات، تحت نظر الأجهزة الرقابية المعنية التي لم تستطِع إيقافها أو الحد منها على الرغم من كثرة هذه الأجهزة.
ولا يمكن الإحاطة في هذه المساحة الصغيرة بحالات التزوير كلها، التي تم تسليط الضوء عليها في أكثر من بلد خليجي خلال الفترة الماضية؛ لأنها كثيرة جداً من ناحية، ومستمرة ولم تتوقف من ناحية أخرى، فضلاً عن أن حساسية القضية ربما تدفع إلى عدم الكشف عن كل أبعادها وأرقامها في بعض الدول؛ ولذلك سوف أكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة المعبّرة عن حجم الكارثة وتداعياتها، وما تنطوي عليه من خطورة على مستقبل التنمية والتطور، بل فكرة التقدم برمتها في بعض المجتمعات.
في عام 2018، حققت محكمة الجنايات في دبي مع أجنبية من أصل آسيوي بتهمة ممارسة مهنة الطب بشهادات مزوَّرة، ولم تكتفِ بذلك، بل كانت تروّج لنفسها بأنها طبيبة المشاهير! وفي الكويت فُجِع الرأي العام في سنة 2018 بقضية اكتشاف عدد كبير من الشهادات المزوَّرة، وأن ثمَّة مسؤولين وموظفين كباراً يحملون هذه الشهادات، وأن هناك موظفين في وزارة التعليم العالي تورطوا في تسهيل عمليات التزوير، والأمر نفسه حدث في البحرين العام الماضي كذلك؛ حينما تحدثت وسائل الإعلام هناك عن تورُّط كثيرين في تزوير شهادات من جامعات وهمية، وفي المملكة العربية السعودية نشرت وسائل الإعلام، في أكثر من مرة خلال السنوات الماضية، حول حالات تزوير لشهادات طبية وهندسية؛ حتى إنه في عام 2014 كشفت هيئة المهندسين السعوديين وحدها نحو 30 ألف شهادة هندسية مزورة.
تزوير يهدد حياة الناس
ولعل أخطر ما يلفت النظر في هذا الخصوص، أن التزوير لا يتوقف عند حد التخصصات الإنسانية والاجتماعية، وإنما يمتد إلى التخصصات الطبية والهندسية التي يفترَض أن تزوير شهاداتها صعب؛ لأن الجانب العملي فيها هو الجانب الأكبر، كما يفترض مراعاة أعلى معايير المهنية والأخلاق فيها؛ لأنها تتعلق بحياة الناس وسلامتهم، لكن ضعف إجراءات التدقيق على الشهادات دفع المزورين إلى التجرُّؤ على ما لا يمكن تصوره، ولك أيها القارئ الكريم أن تتخيل معي معنى أن يمارس شخص ما مهنة الطب، ويشخص الأمراض، ويصف الأدوية، بل يجري عمليات جراحية، ويتحكم في أرواح الناس، بينما هو لا يملك الشهادات أو المهارات التي تسوّغ له القيام بذلك، ومارس هذه المهنة الدقيقة والمتخصصة بوثيقة مزيفة! والأمر نفسه ينطبق على المهندس، الذي يشرف على تخطيط المباني وبنائها من دون أن يكون قد درس الهندسة بشكل حقيقي! النتائج سوف تكون كارثية من دون أدنى شك، ليس على مستوى الاقتصاد والتنمية فقط؛ وإنما على مستوى خسائر الأنفس والأرواح.
جريمة معقدة
وعلى الرغم من العدد الكبير من الشهادات المزيفة، التي تم الكشف عنها في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال السنوات الماضية؛ فإن هذا لا يمثل، للأسف الشديد، سوى جزء بسيط من قمة جبل الجليد المخفيّ تحت السطح، فلا يزال العدد غير المكتشَف أكبر بكثير في كل المجالات، وهنا يكمن مصدر الخطورة؛ لأن المسألة كانت مستمرة منذ سنوات طويلة، وتتسم بالتعقيد الكبير، والسرّية المطلقة، وتقوم عليها جهات ومكاتب متخصصة بهذا النوع من التزوير، ولديها خبرة كبيرة في إخفاء جرائمها؛ بينما الأجهزة الرقابية غافلة أو غير قادرة على وضع يدها على الثغرات التي ينفذ منها المزورون لتنفيذ جرائمهم.
«ظاهرة شراء البحوث العلمية»
وفضلاً عن ذلك؛ فإن جريمة تزوير الشهادات ليست جريمة تزوير عادية، وإنما هي جريمة معقدة؛ ولذلك فإن من الصعب اكتشافها والإلمام بكل خيوطها؛ ويحتاج ذلك إلى جهد كبير وتعاون واسع بين جهات عديدة في الداخل والخارج؛ فثمَّة أنواع مختلفة من التزوير؛ فهناك التزوير الصريح للشهادة العلمية؛ بمعنى استخراج مستند مزوَّر وغير حقيقي ولا أصل له في المؤسسة التعليمية المنسوب إليها، وهناك التزوير من خلال الحصول على شهادة صحيحة من حيث الإجراءات والأختام وغيرها، ولكن من دون أي جهد من قبل صاحبها؛ لأنه أسند إلى آخرين إعداد البحث، أو البحوث العلمية المطلوبة للحصول على الدرجة العلمية بمقابل مادي، فيما يُعرَف بـ«ظاهرة شراء البحوث العلمية»، التي تتم تحت أسماء وصيغ مختلفة. وللأسف الشديد؛ فإن هذه الظاهرة غدت منتشرة بقوة في بعض الدول، وتقوم عليها مكاتب وسماسرة ووسطاء، وبعضهم معروف، ولديه شهرة كبيرة، ويعلن عن نفسه بشكل علني من دون خوف أو خجل. وهناك التزوير من خلال السطو على بحوث الآخرين ونقلها وسرقتها وإسنادها، بغير وجه حق، إلى المزور، وللأسف فإنه في ظل الانفجار المعلوماتي وانتشار الإنترنت، غدا من الصعب اكتشاف ذلك حتى مع البرامج الموجودة لهذا الهدف. وفضلاً عمَّا سبق هناك التزوير من خلال الحصول على شهادات من جامعات وهمية لا وجود لها في الواقع، أي بمعنى الحصول على شهادات من دون دراسة حقيقية، وقد قرأت في بعض التقارير الإعلامية عن هذا الموضوع ما يشيب له الولدان؛ حتى إن ممَّا قرأته أن ثمَّة إعلانات حول توصيل الشهادات إلى المنازل «دليفري»، أو الحصول على شهادة الماجستير أو الدكتوراه خلال شهور، أو حتى أسابيع قليلة، وغيرها الكثير ممَّا يسيء إلى معنى العلم والشهادة العلمية، حتى إن كثيرين بدؤوا يستخفُّون بالشهادات ومَن يحملها، من دون أن تتحرك الجهات الرقابية لملاحقة هذه الإعلانات ومَن يقفون وراءها. ويدفع المُجِدُّ، الذي بذل العرق والوقت سنوات طويلة للحصول على شهادة ينفع بها نفسه ووطنه، ثمن أفعال المزوّرين والمجرمين الذين يريدون أن يأخذوا ما ليس بحقهم، ويحصلوا على درجة علمية بالغش والتدليس، ومن دون أي تعب أو جهد أو جدارة.
مشكلة أخلاقية وضربة للعدالة
وممَّا يزيد من خطورة هذه الظاهرة، أنها تعصف بمعاني العدالة والمساواة والكفاءة؛ لأن الذين يحصلون على شهادات مزوَّرة يستخدمونها في المطالبة بالترقية في وظائفهم، وبعضهم يصل إلى مناصب مهمة، كما ظهر في حالات التزوير التي تم اكتشافها في بعض الدول، وفضلاً عن ذلك، فإنها تعكس أزمة أو مشكلة أخلاقية خطيرة؛ لأن التزوير هو ترجمة لتدنّي القيم والأخلاق في المجتمعات التي يحدث فيها، والمثير في الأمر أن تواتر هذه الظاهرة - تزوير الشهادات - وشيوعها وانتشارها، قد حولتها، أو كادت، إلى ممارسة توشك أن تكون معتادةً بفعل التكرار والتقليد، وهنا مكمن الخطورة الحقيقي. وفضلاً عن ذلك، فإن تزوير الشهادات مشكلة دينية؛ لأن الذين يقومون بها يرتكبون معصية دينية، ويخالفون تعاليم ديننا الحنيف الذي يؤكد النزاهة والأمانة والبعد عن الغش والتدليس، حتى إن الرسول محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن هذا الخُلُق الذميم لقوله في الحديث الشريف في صحيح مسلم: «مَن حمَل علينا السلاح فَليس منا، ومَن غشنا فليس منا».
ومع الشعور بالألم والحسرة في كل مرة يتم فيها اكتشاف قضية تزوير لشهادة علمية؛ لما ينطوي عليه ذلك من دلالات خطيرة على أكثر من مستوى، خاصةً بالنسبة إلى شخص مثلي من جيل آمن بالجهد والعمل والكفاح طريقاً للترقي وتحصيل العلم؛ فإنه يؤمل أن وضع مثل هذه الجريمة الخطيرة تحت المجهر في دولنا، وتركيز وسائل الإعلام عليها، وتحولها إلى قضايا رأي عام في بعض الدول، خاصةً بعد وصولها إلى المحاكم، من شأنها أن تفتح هذا الملف الخطير بكل جوانبه، وتستنهض المؤسسات المعنية، وتحثها على البحث في الوسائل الكفيلة بالتصدي لها، ومعاقبة مرتكبيها، وقبل ذلك اكتشافهم ومحاسبتهم بأثر رجعي على ما اقترفوه بحق أوطانهم ومجتمعاتهم وأنفسهم.
ما الحل؟
ولعل السؤال المهم في هذا الصدد بعد كل ما سبق هو: ما الحل؟ وما السبيل إلى وقف هذه الظاهرة وسدّ الثغرات في الآليات الموجودة لتدقيق الشهادات العلمية؟
المسألة ليست سهلة كما قلت؛ لأن القضية معقدة ومتداخلة، لكن برغم ذلك، فإن المواجهة ليست مستحيلة من ناحية، ولا بديل لها من ناحية أخرى، ويمكنني في هذا السياق أن أقدم بعض المقترحات التي يمكن أن تسهم في هذه المواجهة، التي هي مسؤولية أصيلة للجهات المعنية في الدول المختلفة، وأهم هذه المقترحات هي:
- تفعيل دور الجهات الرقابية المعنية بالتدقيق على الشهادات العلمية، فلا ينقصنا مثل هذه الجهات، ولكن ما ينقصنا هو قوة دورها.
- سنّ التشريعات التي تغلّظ عقوبة جريمة التزوير بصفتها جريمة نافذة الضرر إلى المجتمع من ناحية، وتسرّع من إجراءات المحاكمة فيها من ناحية أخرى، ما يحول دون إفلات أي مجرم من العقاب.
-عرض البحوث الخاصة بالماجستير والدكتوراه على لجان متخصصة قبل اعتماد الشهادات من الجهات المعنية، بحيث تتولى هذه اللجان فحص الأصالة والجِدَّة العلمية في البحث، ومناقشة الباحث للتأكد من إلمامه به، وعدم شرائه أو سرقته، ويمكن الطلب منه إلقاء محاضرة في موضوع الدراسة، أو تقديم عرض عنها قبل اعتماد شهادته.
- متابعة الجهات التي تعلن بشكل واضح استعدادها لإجراء بحوث علمية، وملاحقتها وتقديمها إلى القضاء، وعدم التهاون في ذلك، خاصةً أن ثمَّة إعلانات تظهر في صحف إعلانية بدولة الإمارات العربية المتحدة، ويتم توزيعها على البيوت، وبها إعلانات واضحة عن مكاتب تقوم بعمل البحوث للطلبة في المراحل التعليمية المختلفة، والغريب أنه لا أحد يمنعها، أو يتصدّى لها.
- يمكن التعاون مع شركات متخصصة بتدقيق الشهادات العلمية والمهنية؛ لأنها تملك تقنيات وشبكات متابعة وبحث، وخبرات أكبر في الكشف عن عمليات التزوير التي يتفنن أصحابها والقائمون عليها في تطويرها وتجديدها للالتفاف على عمليات التدقيق والمراجعة.
تغيير النظرة السائدة
- أخيراً، فإننا إذا أردنا أن ننظر إلى الموضوع نظرة أكثر شمولاً؛ فإن من المهم تغيير النظرة السائدة، خاصة في بلادنا الخليجية والعربية، إلى الشهادة العلمية بصفتها الباب الملكي أو السحري نحو الصعود الوظيفي والاجتماعي؛ بحيث تكون الخبرة والكفاءة والمهارة هي المعيار الأول والأساسي. إن أحد العوامل التي تدفع بعض ضعاف النفوس إلى تزوير الشهادات العليا، خاصة الماجستير والدكتوراه، أو الحصول عليها بطرق ملتوية، هو الحصول على ترقية أو منصب قيادي، وهذا ما يحدث للأسف، ومن ثم نجد موظفين ومسؤولين في وظائف مهمة وحساسة و«خبراء» في مجالات مختلفة لا يملكون المعرفة أو العلم أو الخبرة؛ لأنهم لم يبذلوا أي مجهود في الحصول على شهاداتهم التي خولتهم الحصول على وظائفهم، أو مناصبهم، أو صفاتهم المهنية.
إن مجتمعاً تنتشر فيه ظاهرة تزوير الشهادات العلمية هو «مجتمع في خطر»؛ ولذلك فإن هذا المقال هو بمنزلة صرخة في وجه هذه الظاهرة المقيتة، وأتمنى أن ينضم إليَّ آخرون في الحملة التي أقودها ضد هذا الوباء، سواء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر الصحف والتليفزيونات، وغيرها من وسائل الإعلام؛ لأن الخطر جَلَل؛ ليس على الحاضر فقط، وإنما على المستقبل أيضاً.
*كاتب إماراتي