اكتملت في مطلع الشهر الحالي إجراءات انسحاب الولايات المتحدة من «معاهدة القوى النووية متوسطة المدى»، والتي تعهدت بموجبها مع الاتحاد السوفييتي بعدم صنع أي صواريخ متوسطة أو قصيرة المدى أو تجريبها أو نشرها. وحُدد المدى المتوسط بما بين 1000 و5500 كم والقصير بما بين 500 و1000كم، وقد اعتبرت روسيا المعاهدة منتهيةً لهذا الانسحاب، وهكذا انتهت حقبة كاملة من جهود نزع السلاح حظيت بدفعة قوية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي الذي بدأ بصعود ميخائيل جورباتشوف إلى سدة السلطة في الاتحاد السوفييتي والذي أحدث تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية السوفييتية بإخراجها من إطار التكييف الصراعي للعلاقات بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي إلى شعاره الشهير «عالم واحد أو لا عالم» والذي كان يعني أن كلا المعسكرين يتعين عليهما أن يواجها سوياً التحديات الخطيرة المشتركة التي تعج بها الساحة الدولية. وارتبط بهذا التكييف الجديد مبدأ «الدفاع الكافي» الذي دشنه جورباتشوف أيضاً، ويعني أن العملاقين الأميركي والسوفييتي ليسا بحاجة لأن يدمر كل منهما الآخر، ومن هنا أمكن تحقيق تقدم جوهري في جهود نزع السلاح والحد من الأسلحة بمبادرات جريئة تعتمد على تقليص «فائض القوة» الرهيب الذي يتمتع به العملاقان دون المس بقدرة أي منهما على حفظ أمنه بشكل كامل. وكانت هذه المعاهدة المغدورة إحدى ثمار مبادرات جورباتشوف التي لم يكن بوسع الولايات المتحدة التنكر لها، لأنها كانت تتضمن تنازلات سوفييتية حقيقية. فمثلا دمر الاتحاد السوفييتي بموجب المعاهدة الموقعة عام 1987، والتي دخلت حيز التنفيذ في العام التالية، 1972 صاروخاً، فيما دمرت الولايات المتحدة 859 صاروخاً.
ورغم أن المعاهدة لم تكن محددة المدة، فقد نصت على حق طرفيها في الانسحاب منها بعد تقديم مبررات مقنعة، وهو ما حاول ترامب فعله، إذ برر انسحابه بعدم التزام روسيا بالمعاهدة، خلافاً لما يراه خبراء أميركيون استراتيجيون بارزون ناشدوه عدم الانسحاب. وللأمانة فإن هاجس عدم الالتزام الروسي بالمعاهدة سابق على ترامب، حيث حذّر سلفه أوباما الروس في 2014، بعد تجربة صاروخية اعتبر أنها تنتهك المعاهدة. وصرح وزير الخارجية الأميركي الحالي بأن بلاده أثارت مخاوفها لروسيا منذ 2013 وأن موسكو صدت خلال السنوات الست الماضية كل الجهود الأميركية لدفعها إلى احترام المعاهدة.
وبالمقابل ترفض روسيا الادعاء الأميركي وتدفع بأن المدى الأقصى للصواريخ التي يتحدث بومبيو عن تهديدها لأميركا وحلفائها هو 480 كم، أي في حدود ما تسمح به المعاهدة.
والواقع أن ثمة تفسيرين لخطوة ترامب، بغض النظر عن صحة قوله بانتهاك روسيا المعاهدة، أولهما سياسته الخارجية القائمة على الانسحاب من التزامات دولية عديدة يرى أنها لا تحقق المصلحة الأميركية، بدليل أن أوباما رغم تحفظاته على التزام روسيا بالمعاهدة، لم يتخذ هذه الخطوة أو حتى يلوح بها. أما التفسير الثاني، وهو الأهم، فخلاصته أن المعاهدة لم تشمل الصين التي بدأت تظهر قدراتها النووية المتنامية وفق ذات النموذج الذي تطورت به القوة الاقتصادية والعسكرية للصين على مر العقود الماضية حتى وصلت إلى مكانتها الحالية. ويؤكد هذا التفسير ما كشف عنه ترامب من رغبة في ضم الصين وروسيا إلى معاهدة جديدة للصواريخ. ويتسق مع هذا ما ذكرته مجلة «ناشيونال إنترست» من أن هدف واشنطن من الانسحاب من المعاهدة هو دخول حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين في مياه المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا، لأن الصين تقوم بتطوير قدرات صاروخية تعتبرها واشنطن تهديداً لقواتها هناك.
وأياً كانت صحة التفسيرات السابقة فالنتيجة العملية سوف تكون سباق تسلح جديد، إذ يتضح منذ تولى ترامب الرئاسة أنه يمارس سياسات تصعيدية مع خصومه لإجبارهم على تقديم تنازلات تُبنى عليها ترتيبات جديدة للعلاقات، دون أن ينجح في ذلك، بسبب تآكل الاحتكار الأميركي لقيادة العالم، وبالتالي فالنتيجة الحتمية هي زيادة التوتر، وهو ما رأيناه بالفعل في ردود الفعل الروسية والصينية الفورية لانسحابه من المعاهدة.
ورغم أن المعاهدة لم تكن محددة المدة، فقد نصت على حق طرفيها في الانسحاب منها بعد تقديم مبررات مقنعة، وهو ما حاول ترامب فعله، إذ برر انسحابه بعدم التزام روسيا بالمعاهدة، خلافاً لما يراه خبراء أميركيون استراتيجيون بارزون ناشدوه عدم الانسحاب. وللأمانة فإن هاجس عدم الالتزام الروسي بالمعاهدة سابق على ترامب، حيث حذّر سلفه أوباما الروس في 2014، بعد تجربة صاروخية اعتبر أنها تنتهك المعاهدة. وصرح وزير الخارجية الأميركي الحالي بأن بلاده أثارت مخاوفها لروسيا منذ 2013 وأن موسكو صدت خلال السنوات الست الماضية كل الجهود الأميركية لدفعها إلى احترام المعاهدة.
وبالمقابل ترفض روسيا الادعاء الأميركي وتدفع بأن المدى الأقصى للصواريخ التي يتحدث بومبيو عن تهديدها لأميركا وحلفائها هو 480 كم، أي في حدود ما تسمح به المعاهدة.
والواقع أن ثمة تفسيرين لخطوة ترامب، بغض النظر عن صحة قوله بانتهاك روسيا المعاهدة، أولهما سياسته الخارجية القائمة على الانسحاب من التزامات دولية عديدة يرى أنها لا تحقق المصلحة الأميركية، بدليل أن أوباما رغم تحفظاته على التزام روسيا بالمعاهدة، لم يتخذ هذه الخطوة أو حتى يلوح بها. أما التفسير الثاني، وهو الأهم، فخلاصته أن المعاهدة لم تشمل الصين التي بدأت تظهر قدراتها النووية المتنامية وفق ذات النموذج الذي تطورت به القوة الاقتصادية والعسكرية للصين على مر العقود الماضية حتى وصلت إلى مكانتها الحالية. ويؤكد هذا التفسير ما كشف عنه ترامب من رغبة في ضم الصين وروسيا إلى معاهدة جديدة للصواريخ. ويتسق مع هذا ما ذكرته مجلة «ناشيونال إنترست» من أن هدف واشنطن من الانسحاب من المعاهدة هو دخول حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين في مياه المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا، لأن الصين تقوم بتطوير قدرات صاروخية تعتبرها واشنطن تهديداً لقواتها هناك.
وأياً كانت صحة التفسيرات السابقة فالنتيجة العملية سوف تكون سباق تسلح جديد، إذ يتضح منذ تولى ترامب الرئاسة أنه يمارس سياسات تصعيدية مع خصومه لإجبارهم على تقديم تنازلات تُبنى عليها ترتيبات جديدة للعلاقات، دون أن ينجح في ذلك، بسبب تآكل الاحتكار الأميركي لقيادة العالم، وبالتالي فالنتيجة الحتمية هي زيادة التوتر، وهو ما رأيناه بالفعل في ردود الفعل الروسية والصينية الفورية لانسحابه من المعاهدة.