ظهرت محاولات للنقد في الفكر العربي المعاصر على استحياء وتردد. وظلت هامشية تتناولها النخبة فيما بينها، وليس لها تأثير على مستوى الثقافة العامة. منها كتاب «نقد الفكر الديني» (صادق جلال العظم) بعد هزيمة يونيو 1967، كشفاً للجانب الأسطوري في بعض الممارسات الدينية، وكرد فعل على الهزيمة، وتلمساً لبداية الطريق نحو النصر.. وكان رد البعض عليه بالتكفير والاستبعاد، والاتهام بالشيوعية والمادية.
ومن المحاولات النقدية العربية أيضاً كتاب «نقد الخطاب الديني» (نصر حامد أبو زيد)، كرد فعل على انتشار الخطاب الديني في الحياة العامة، بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والتحالف المصري الأميركي. ويكشف أبوزيد عن الجانب الاجتماعي والسياسي في هذا الخطاب وعن لعبة الدين والسياسة، لاسيما رجال الدين الذين يقومون بدور سياسي ورجال السياسة الذين يقومون بدور ديني.
ومنها أيضاً كتاب «نقد العقل الإسلامي» (محمد أركون)، والذي جاء بطريقة أكثر علمية وتاريخية وفلسفية، ذلك لاعتماده على اللسانيات المعاصرة، منتقلاً من المفَكر فيه إلى اللامفَكَّر فيه، من لحظات معينة في تاريخ الفكر الإسلامي إلى الحكم على بنية العقل الإسلامي ككل، ومن اللحظات المتغيرة إلى الجوهر الثابت. وكان لهذا الكتاب أثره على المثقفين، خاصة في المغرب العربي وفي الغرب الأوروبي حيث كان مؤلفه يعيش مهاجراً في باريس بعيداً عن الحياة الوطنية الفكرية في الجزائر وعن الحراك الأمازيغي في ولاية «تيزي أوزو» حيث ولد ونشأ.
ومنها «نقد العقل العربي» (محمد عابد الجابري)، والذي يصف فيه «تكوين العقل العربي» من البيان إلى العرفان إلى البرهان، ويحدد «بنية العقل العربي» في نفس المقولات الثلاث، موضحاً الفرق بين المشرق والمغرب من حيث إن الأول اختار البيان والثاني (المغرب) اختار البرهان. في حين أن الحسن بن الهيثم والخوارزمي في المشرق، وابن مسرة وابن عربي في المغرب. وطبّق ذلك في العقل الأخلاقي العربي ونموذجه ابن مسكويه، ثم في العقل السياسي العربي ونموذجه أردشير (الملك الساساني). وأنهى الرباعية بتفسير طولي للقرآن للكريم في ثلاثة أجزاء بعد جزء نظري أول في كيفية فهمه. ووضع كل سورة في منطق يبدأ من مقدمات وينتهي إلى نتائج. ورغم ذيوع محاولة الجابري عربياً فقد ظلت تدين في منهجها للبنيوية، تخلط بين التراث الإسلامي (الذي ساهمت فيه كل الشعوب) وبين العقل العربي، وتنتقل من التاريخ لتحكم على الجوهر.
وبقيت هذه المحاولات المعاصرة على أيدي النخبة، غير مؤثرة على الجماهير. ولم يتجاوز النقد هنا التحليل التاريخي ثم الحكم على الجوهر. وكما قام العقل التقليدي بالإيمان المسبق بالمعطيات، قام النقد المعاصر على التسليم المسبق بالأيديولوجيات، ماركسية (العظم) أو اشتراكية (أبو زيد) أو ليبرالية (أركون) أو قومية (الجابري).. وبالمناهج الغربية، الاجتماعية التاريخية (العظم)، والأدبية (أبو زيد)، واللسانية (أركون)، والبنيوية (الجابري).
وبدلاً من أن يبدأ النقد بالتحليل، انتهى بالتركيب، وبدلًا من أن يحلل الأبنية القديمة، انتهى بأن ركب أبنية جديدة موازية فوق الأبنية القديمة سرعان ما تنهار أمام الموجة السلفية والتمسك بالخطاب التقليدي القديم.
إن النقد الثقافي لابد أن يبدأ من الواقع الثقافي الذي قد يتراكم فيه التراث القديم ويتفاعل فيه التراث الغربي، ويتصارع فيه الموروث والوافد معاً. الموروث يريد أن يستمر من الماضي إلى الحاضر، والوافد يريد أن يزرع المستقبل في الحاضر، وكلاهما إغفال لمسار التاريخ. ومعظم المحاولات التي سعت للافتكاك من قيود القديم دون الوقوع في قيود الجديد تستبعد من الفريقين. تتهم من أنصار القديم بالعلمانية، ومن أنصار الجديد بالسلفية، في ثقافة ما تزال ترى ضرورة التعارض بين العناصر المكونة لها، ولا ترى إلا عنصراً واحداً.
لقد أعاقت بعض جوانب التراث القديم ظهور نقد ثقافي، لأنه كان مشغولاً ببناء العلوم. كان يتمثل ويستوعب ويهضم كل الثقافات المجاورة.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة