البحث عن السلام في أوكرانيا لا يحتمل المزايدات والتوقعات المتسرّعة، فالحرب بلغت ما تستطيع إنجازه على الجانبين، والمضي فيها يلامس أقصى درجات الخطر. والسؤال الآن هو: أيّ شكل للسلام وأيّ طريقة للتوصل إليه؟ اختارت الإدارة الأميركية السابقة استراتيجية مواجهة روسيا، بعد اندلاع حرب أوكرانيا، لتوريطها في حرب مفتوحة بلا نهاية.

وانطلقت دول التحالف الغربي من فرضية أن التكلفة الباهظة لدعم كييف في حرب تخوضها بالوكالة تبقى أقلّ من أعباء حرب مباشرة تطاول أراضي حلفائها، ولذلك قدّمت أميركا وأوروبا السلاح والمال والخبرات لأوكرانيا وفرضت عقوبات غير مسبوقة على روسيا. ثم جاءت إدارة أميركية جديدة بمقاربة استراتيجية مختلفة تماماً لا تقتصر على إنهاء الحرب، بل ترمي إلى «وفاق جديد» مع روسيا، قوامه علاقات طبيعية وتعاون اقتصادي وأمني في العديد من القضايا الدولية. قبل حرب أوكرانيا وخلالها، كانت موسكو وكذلك بكين تطرحان تغيير النظام الدولي وتُقدمان على خطوات في هذا السبيل، وكان مفهوماً أن الهدف من تكريس «نظام متعدد الأقطاب» هو التخلّص من احتكار الولايات المتحدة للأحادية القطبية والهيمنة على الأمن والاقتصاد الدوليين.

وعدا التبشير بـ«أفول الغرب» و«تراجع النفوذ الأميركي» وغير ذلك من الشعارات التي بدت لوهلةٍ ممكنةً وواقعيةً، فإن روسيا أكّدت دائماً أن حربها في أوكرانيا يجب أن تنتهي بتسوية تناسبها وتلبّي طموحاتها كدولة كبرى وإلا فإن طرفيها سيواصلان استنزاف أحدهما الآخر، واعتبرت دائماً أن تحقيق هذا الهدف يتطلّب توافقاً مع أميركا وبمبادرةٍ منها نظراً لتأثيرها الحاسم في النطاق الأوروبي.

وبموازاة ذلك، لم تتعامل الصين مع أميركا وأوروبا على قاعدة أنها في «حرب تجارية»، بل في تنافس تفرضه قواعد السوق، متمسّكةً بخيار الحوار وإبقاء الخلافات في إطار التعاون بمعزل عن التباينات السياسية.هناك مبادرة أميركية الآن، واستجابة روسية، ورغبة دولية في إنهاء الحرب، بل رغبة أقوى في سلام مستدام.

وبمعزل عن تصريحات الرئيس دونالد ترامب التي توحي بالتعجّل، كان الاجتماع رفيع المستوى الذي اختيرت الرياض مكاناً لانعقاده عودةً إلى الدبلوماسية المتعارف عليها وبدايةً طبيعية لمسار معقّد، قد يطول أو يقصر، في اتجاه السلام.

إذ لا يمكن البحث في إنهاء الحرب قبل إعادة العلاقات إلى سويتها بين الدولتين الكبريين، وبالتالي فتح كل الملفات التي تعنيهما ثنائياً وجيوسياسياً. لكن مجرّد التوجّه إلى «تطبيع» العلاقات يعني سلسلة من التداعيات: مخاوف كييف من تراجع الدعم الأميركي للحرب، واستشعار دول حلف شمال الأطلسي أن «التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا» آيل إلى التفكك، والبدء ببرامج لرفع العقوبات تدريجاً، بالتزامن مع التفاوض على الملف الشائك والأكثر صعوبة المتعلّق أولاً بأمن أوكرانيا وضماناتها وثانياً بأمن أوروبا ومستقبل العلاقة بين روسيا وحلف الأطلسي.. إلخ.

أكبر التعقيدات يكمن في الأسس التي سيُبنى عليها وقف إطلاق النار، فمعظم الخبراء الغربيين مقتنعون بأن واشنطن تميل إلى الأخذ بنتائج الحرب المحققة ميدانياً، وكان وزير الدفاع الأميركي واضحاً في القول بأن استعادة أوكرانيا أراضيها في حدود 2014 (قبل ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم)، وانضمام كييف إلى حلف الأطلسي، ليسا «هدفَين واقعيين». لكن محللين عسكريين يرون أن استعادة أوكرانيا أراضيها في حدود مطلع 2022 لم تعد ممكنة. كما أن الناطق باسم الكرملين استبعد تبادل الطرفين أراض محتلة (الأوكرانيون احتلوا منطقة كورسك غربي روسيا). لن يكون التفاوض سهلاً، خصوصاً إذا توسّع التباعد الحاصل بين الحلفاء الغربيين، وبالأخص إذا انفردت واشنطن وموسكو بصوغ التسوية من دون مراعاة لمستقبل أمن أوكرانيا والأمن الأوروبي.

*محلل سياسي - لندن