أحدث الإعلان عن نموذج «ديب سيك» للذكاء الاصطناعي شبه المجاني من قبل شركة صينية هاوية، لمنافسة نموذج «جي بي تي» الأميركي عالي التكلفة، هزة عنيفة في أسواق المال العالمية، وبالأخص الأميركية، حيث تهاوت أسهم شركات التكنولوجيا بنسب عالية وصلت إلى 13% بالنسبة لسهم «إنفيديا» أكبر الشركات، بخسارة 465 مليار دولار بجلسة واحدة، مما دعا بنك «مورغان ستانلي» للدعوة إلى تنويع المحافظ المالية بإضافة أسهم الطاقة.

ومع أن ذلك اعتبر عنصر مفاجأة، إلا أنه كان متوقعاً، حيث سبق أن أشرنا لتحديات هذه الشركات، فالمنافسة بين العملاقين التكنولوجيين، الولايات المتحدة والصين، لن تتوقف عند حدود معينة، إذ أعلنت الصين مؤخراً عن اكتمال أكثر من 30 ألف مصنع ذكي!

مما أدى إلى العودة للحمائية التجارية لتحقيق العديد من الأهداف، بما فيها حماية شركات التكنولوجيا الأميركية التي تتراجع قدراتها التنافسية، مقابل التنين الصيني الذي يطرح منتجات رخيصة بجودة عالية، بل إن بعض تطبيقاته وخدماته التقنية تعتبر أفضل وأسرع من مثيلاتها الأميركية. أما بقية دول العالم، فإنها أقل قدرة تنافسية بسبب حجم الاستثمارات الهائلة والعقول المدربة تدريباً عالياً، فرغم تخصيص فرنسا 30 مليار دولار وبريطانيا 10 مليارات دولار لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلا أن ذلك لا يقارن باستثمارات الصين والولايات المتحدة التي استثمرت 570 مليار دولار في العامين الماضي والحالي، في حين تحاول الهند وروسيا والبرازيل ودول مجلس التعاون الخليجي، التي خصصت استثمارات بحجم 50 مليار دولار للذكاء الاصطناعي، ولوج هذا المجال بقوة. والصراع بين القوتين العظميين تكنولوجياً لم يبدأ مؤخراً مع النموذج الصيني الجديد، وإنما برز بصورة حادة بين الشركات الأميركية وشركة هواوي الصينية، التي استحوذت على أسواق كبيرة بصورة سريعة، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، مما استدعى واشنطن إلى الضغط على هذه الدول لإلغاء الاتفاقيات التي وقعتها مع هواوي بمليارات الدولارات، بحجة حماية الأمن القومي لدول الناتو، وهو ما استجابت له العديد من هذه الدول، وبالأخص في أوروبا، لتستمر هذه الضغوط وتشمل شركات صينية أخرى، من بينها «تيك توك» الذي اكتسح وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية. ويبدو أن هذه المنافسة بين العملاقين ستتطور وتحتدم باستخدام مختلف الوسائل والضغوط، فالمسألة تخص مجالات مستقبلية حيوية، ومن يفوز فيها سيحدد الكثير من التوجهات والمكاسب التي ستضعه على قمة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، أي مستقبل العالم في العقود القادمة.

وهذه المكاسب المتوقعة تشمل جوانب تجارية واستثمارية وسياسية وعسكرية وأمنية خطيرة، إذ من هنا بالذات تأتي المخاوف الأميركية والغربية بشكل عام، خصوصاً أن التعاون الصيني الروسي بلغ مستويات عالية من التنسيق بعد الحرب الأوكرانية التي شارفت على نهايتها مع ترامب وتعهده بإنهاء الحروب في العالم، بما فيها الحرب الأوكرانية الروسية.

ومن الناحية التجارية، فإن معظم التعاملات المحلية والدولية ستتم من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي في السنوات القادمة، مما سيحقق مكاسب مالية كبيرة لمالكي هذه النماذج، إذ سيكون السعر والجودة محددين، بغض النظر عن التحالفات، فمعظم الدول النامية والناشئة ستحتاج منتجات تكنولوجية رخيصة تتناسب وقدراتها المالية، وهو ما ينطبق على حركة الاستثمارات عالمياً. وستكون لهذا المجال التجاري انعكاسات جيوسياسية مهمة ستؤدي إلى قيام تحالفات جديدة ستحدد معالمها المصالح قبل أي شيء آخر، وهو ما سيؤدي بدوره إلى إحداث تغيرات جذرية في موازين القوى على المسرح العالمي.

وفي الجانب العسكري، الذي يعد أحد المجالات الأكثر نمواً في استخدام التقنيات الحديثة، مخلفاً تأثيرات خطيرة، ستحدد القوى المنتصرة في الحروب والصراعات بعيداً عن التدخلات المباشرة للجيوش ومعداتها الثقيلة، إذ يكفي الضغط على زر واحد للقضاء على جزء مهم من القدرات البشرية والمعدات للخصم. وسيمس ذلك أمن الدول وصراعاتها الداخلية والتدخل في مجالاتها الحيوية واختراق مواقعها وتخريبها، مع ما يشكله ذلك من خسائر مالية كبيرة، إذ يعتبر ما ورد آنفاً مجرد الظاهر من قمة جبل يحمل صراعات ومنافسات شديدة ستستخدم فيها كافة الوسائل.

*خبير ومستشار اقتصادي.