الفكرة الأولية الشائعة عن أفكار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخصوص تهجير سكان غزة إلى خارجها، بدعوى إعادة الإعمار، أنها فكرة عشوائية أطلقها صاحبها اتساقاً مع الطابع اللامؤسسي لأدائه منذ ولايته الأولى، وانعدام خبرته بالشؤون السياسية، غير أنه ظهر منذ أيام على وسائل التواصل الاجتماعي تحليلٌ مغاير لصحفية ومدونة فلسطينية معروفة، ينبّه إلى أن طرح هذه الأفكار الشاذة حول تهجير سكان غزة يعكس استراتيجية مدروسة تهدف إلى خلق واقع إعلامي مواز يجبر الخصومَ على التفاعل معه وكأنه خيار مطروح.
وأضافت في تدوينة نشرتها على حسابها في منصة «إكس»، أنه على الرغم من أن هذه التصريحات لا يمكن تنفيذها عملياً، فإن مجرد طرحها وتكرارها يجعلها قابلة للنقاش، ويساهم في إعادة تشكيل الوعي العام، ويضع الأطراف المعنية بها في موقف دفاعي.
وأصَّلت الصحفية والمدونة لرأيها نظرياً، من خلال ثلاث نظريات تُستخدم للتأثير في الرأي العام؛ وأولها نظرية «الدخان والمرايا»، وتقوم على إثارة ضجة إعلامية ضخمة حول فكرة مستحيلة بهدف إلهاء الرأي العام، أو تحقيق مكاسب غير مباشرة، كتحويل وجهة النقاش مثلًا من التركيز على وقف العدوان إلى سؤال: «أين سيذهب الفلسطينيون؟»، وبالتالي يبدأ التعامل مع «التهجير» كفكرة قيد النقاش، ما يخلق ضغطاً على الأطراف الدولية والإعلامية المعنية.
والنظرية الثانية هي «إغراق الساحة»، أي السيطرة عبر الفوضى الإعلامية، وتعتمد هذه النظرية على نشر سيل من التصريحات والتسريبات الإعلامية بهدف إرباك المعارضين، والسيطرة على النقاش العام بإبقاء الجميع في حالة رد فعل دائم، بدلاً من التركيز على جرائم الاحتلال مثلاً. أما النظرية الثالثة فهي «السردية بالقوة»، وتقوم على التكرار الإعلامي للأفكار التي قد تبدو مستحيلةً في البداية، لكن تكرارَها يجعلها أقلَّ صدمة، ومن ثم أكثر قابليةً للتداول الإعلامي.
وخلصت الصحفية والمدونة إلى أن طرح فكرة التهجير ليس سوى محاولة ممنهجة لإعادة تشكيل وعي الجمهور، ما يستدعي مواجهةً حازمة. وملاحظتي الأساسية على هذا التحليل الرصين أنه ينفي صفة العشوائية عن تصرفات الرئيس الأميركي، ويُكسبها رشادة واضحة، بل وبراعة في الطرح الإعلامي لأفكار قد تبدو مستحيلةً في البداية، لكن قبولها يمكن أن يحدث بالتدريج.
ورأيي المتواضع أن هناك فارقاً بين أن نؤصل نظرياً لتصرفات ترامب وبين أن تكون هذه التصرفات نابعة من خطة رشيدة تُنَفَّذ بإحكام. وحجتي الرئيسة في هذا الصدد تتمثل في التخبط الواضح في طرح أفكاره بصفة عامة، وليس تجاه غزة فقط، فقبل أن يكتمل شهره الأول في الرئاسة كان قد قدّم مطالباتٍ إقليميةً بحق كل من بنما وكندا والدنمارك والمكسيك، ومن الطريف أن يضيف لها غزة، بعد أن وصلت تصريحاته إلى حد إعلانه أن الولايات المتحدة سوف تسيطر عليها، وسوف تتسلمها من إسرائيل التي رعى لتوه اتفاقاً بينها وبين «حماس» يقضي - إن اكتمل تنفيذُه - بانسحابها من غزة.
ويلاحظ كذلك التخبط في الفكرة ذاتها من التهجير نحو مصر والأردن، إلى طرح دول أخرى، إلى حديث السيطرة على غزة من دون جنود! لأنه سيتسلمها من إسرائيل (!)، إلى مطالبة رافضي تصريحاته بتقديم بدائل لفكرة التهجير.. أي أن هناك تخبطاً عاماً في طرح الفكرة يستبعد أن يكون منطلقاً في تصريحاته هذه من خطة محكمة، والله أعلم.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة