دورُ الذكاء الاصطناعي تصدّر نقاشات الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي لهذا العام. وكان حاضراً بقوة في بحث التوقعات الاقتصادية العالمية، ومستقبل القوى العاملة، وتحول الطاقة أيضاً. هذا الصعود للتكنولوجيا المتطورة، وانتقال الابتكارات المصاحبة لها من المختبرات ومراكز البحث إلى المصانع وسلاسل التوريد وسلسلة القيمة، يقرّبنا من حقبة جديدة مليئة بالفرص الاجتماعية والاقتصادية والبشرية. وستشكل الاستفادة من هذه النقلات التكنولوجية ودمجها في نظام الطاقة العالمي عاملاً حاسماً لفتح آفاق هائلة.
هذا الإجماع شهدناه في دافوس السويسرية خلال اليوم العالمي للطاقة النظيفة. وفي جلسة استضافها جناح دولة الإمارات على هامش الاجتماع السنوي يوم 22 يناير الجاري، أكد القادة العالميون المجتمعون أهمية الطموحات الأكبر والتبني الأسرع للتكنولوجيا لتحقيق أهداف «اتفاق الإمارات» التاريخي، المتمثلة في رفع قدرات الطاقة المتجددة بثلاثة أضعاف ومضاعفة كفاءة الطاقة بحلول عام 2030. وقد أثبتت دولة الإمارات، من موقعها الريادي عالمياً في قطاع الطاقة المتجددة، كيف يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تحقيق مرونة وأمن الطاقة. فمثلاً، يستخدم «مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية» الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة الألواح الشمسية وتعزيز إنتاج الطاقة. كما تدمج دولة الإمارات الذكاء الاصطناعي في أنظمة تخطيط الطاقة لديها، مما يتيح رصد أداء الشبكة بصورة آنية والتحليل الاستباقي للتخفيف من الانقطاعات المحتملة.
وعبر مبادرات عالمية المستوى مثل «مدينة مصدر»، والشراكات مع رواد التكنولوجيا الدوليين، تقود دولة الإمارات استخدام الذكاء الاصطناعي لدفع عجلة الكفاءة وتقليل الانبعاثات وتجهيز أنظمة الطاقة لديها للمستقبل. أما عالمياً، ومع تجاوز معدّل 1.5 درجة مئوية العام لارتفاع حرارة كوكب الأرض سنة 2024، تبرز الضرورة العاجلة لاعتماد حلول مبتكرة ومؤثرة بعيدة المدى. وأمامنا وقت قصير لتطبيقها. تشير الأبحاث الحالية إلى إمكانية خفض الانبعاثات بنسبة 20 بالمئة بحلول عام 2050 عبر توسيع استخدام التكنولوجيا الرقمية بالوتيرة الصحيحة في القطاعات الثلاثة الأكثر تسبباً بالانبعاثات وهي الطاقة والمواد والتنقل. ويمثل ذلك حصة هائلة من تخفيض الانبعاثات المطلوب لإبقاء الارتفاع الحراري تحت مستوى 1.5 درجة مئوية في المستقبل.
لكنْ هناك تلازم بين تطور الذكاء الاصطناعي العميق وزيادة استهلاكه للطاقة. وكلما زاد عدد تقنيات وأدوات الذكاء الاصطناعي المطوّرة، زاد الطلب على الطاقة التي تشغلها. وبالتالي، تشير التوقعات إلى ارتفاع الطلب على الطاقة كلما زاد اعتمادنا على أدوات وشبكات الذكاء الاصطناعي. ويقدّر تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي مطلع عام 2024 أن استخدام الذكاء الاصطناعي للطاقة تسبب بنحو 2-3% من إجمالي الانبعاثات العالمية. لكن ذلك يمكن أن يتغير بسرعة مع استخدام المزيد من الشركات والحكومات والمؤسسات للذكاء الاصطناعي في دفع عجلة الكفاءة والإنتاجية. بالمقابل، وعندما ندرك أن الذكاء الاصطناعي، خصوصاً أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية، قد تستهلك طاقة تفوق ما تحتاجه البرامج التقليدية المطلوبة لإنجاز مهمة محددة بـ33 ضعفاً، نفهم أهمية اعتماد إمدادات طاقة نظيفة ومتجددة.
والعلامات المبكرة لتأثير الذكاء الاصطناعي على قطاع الطاقة مشجعة، ونشهد موجة من الابتكارات التقنية النوعية التي تعيد تشكيل نظام الطاقة، بما يشمل التحول في توليد الطاقة المتجددة والتغيير الجذري في كيفية استهلاك الطاقة. أما في مجال الإمدادات، فتتيح ابتكارات تضم أنظمة الطاقة الشمسية الكهروضوئية المتقدمة، وتوربينات طاقة الرياح البحرية، والجيل التالي من البطاريات على نطاق الشبكات، إنتاج طاقة أنظف وأكثر كفاءة مع تحسين كفاءة الشبكات. كما تثمر تقنيات الهيدروجين الأخضر والشبكات الذكية والكهربة بتخفيضات هائلة في انبعاثات الكربون في الاستخدام النهائي في قطاعات النقل والمباني والصناعة.
وتحسّن الأدوات الرقمية، كالذكاء الاصطناعي والبلوك تشين، كفاءة الطاقة وتسهّل تكامل أنظمة الطاقة المتجددة اللامركزية. التحوّل النوعي لقطاع الطاقة بالاستفادة من التكنولوجيا يغير كيفية إنتاج الطاقة واستهلاكها أيضاً، ويؤسس مساراً جديداً للتنمية يعطي الأولوية للطاقة النظيفة المتوافرة ميسورة التكلفة. ويساعد دمج الذكاء الاصطناعي مع مصادر الطاقة المتجددة على توفير احتياجات المجتمعات في مناطق الخطر. فمثلاً، يجري تطبيق خوارزميات التعلم الآلي لتحسين الشبكات الكهربائية المصغرة، لعدم انقطاع إمدادات الطاقة خلال الطوارئ المناخية.
وتقلّص أدوات الصيانة الاستباقية المدعومة بالذكاء الاصطناعي فترات التعطل في مرافق الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بينما تحسّن نماذج الأرصاد الجوية المتقدمة قدرات تخزين الطاقة وموازنة الشبكة لاستيعاب التباين في مصادر الطاقة المتجددة بسبب تغيرات الطقس. تلك الحلول الرقمية مهمة لتوسيع اعتماد أنظمة الطاقة المتجددة عالمياً وتعزيز مرونتها في مواجهة الأعطال. التقارب بين الذكاء الاصطناعي وتحول الطاقة يوفر فرصة غير مسبوقة لمواجهة التحدي المزدوج المتمثل في إزالة الكربون والطلب المتزايد على الطاقة.
لكن يتطلب تحقيق ذلك عملاً عالمياً منسقاً. وعلى صانعي السياسات إعطاء الأولوية للاستثمار في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، بالتزامن مع تبنّي قطاع الطاقة حلول الذكاء الاصطناعي بمسؤولية لضمان توافقها مع أهداف الاستدامة. دولة الإمارات تسجل الإنجازات في هذا المجال بالجمع بين الابتكارات والطموحات، لكنها تعوّل أيضاً على التعاون الدولي لتوسيع ذلك على المستوى العالمي. وإذا أردنا الإبقاء على هدف 1.5 درجة مئوية في المتناول وبناء مستقبل مدعوم بالطاقة النظيفة والموثوقة، حان الآن وقت العمل. والذكاء الاصطناعي سيساعدنا، عند دمجه بصورة مدروسة وعادلة في أنظمة الطاقة، على تحقيق التحوّل المنشود وبناء مستقبل مستدام، إذا ما التزمنا بتوسيع نطاق التقنيات والسياسات التي تمكّن من ذلك عالمياً.
* المندوب الدائم لدولة الإمارات العربية المتحدة لدى الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (آيرينا)