منذ الإعلان عن فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية مجدداً، والعالم بكافة قواه يقف مستنفراً بانتظار قراراته، التي لا يمكن التكهن بمضامينها، والتي بدأت في الصدور على التوالي منذ اليوم الأول لتنصيبه، مما دفع الكثير من الدول والمؤسسات إلى الاستعداد والتحضير للتغيرات المهمة والخطيرة على كافة المستويات الاقتصادية والجيوسياسية، التي عبّر عنها الرئيس خلال حملته الانتخابية.
فقد سارعت الصين إلى الإعلان عن أملها في حل القضايا التجارية العالقة بصورة ودية، في حين تعددت الآراء داخل الاتحاد الأوروبي بين ضرورة مسايرة التوجه الترامبي وبين مواجهته، في حين أبدت روسيا ترحيباً حذراً بنيّته إيجاد حل لحرب أوكرانيا، في الوقت الذي اعتبرته دول مثل كندا وبنما والدنمارك تهديداً لسيادتها الوطنية.
أما على مستوى المؤسسات المالية والتجارية، والتي تركّز عليها التوجهات الجديدة للرئيس ترامب، فإنها سارعت إلى دراسة هذه التوجهات ومدى تأثرها بها؛ فبنك «جي.بي مورغان»، على سبيل المثال، سارع إلى تشكيل فِرق عمل لمتابعة التطورات، التي قد تنجم عن سياسات ترامب، إذ نلاحظ هنا أن القرار يتعلق بفِرق عمل وليس لجاناً، على اعتبار أن عمل اللجان عادة ما يكون رتيباً وبيروقراطياً، في حين يتميز نشاط فِرق العمل بالمتابعة اليومية والديناميكية واتخاذ القرارات في الوقت المناسب لتجنّب تداعياتها في وقت مبكر.
وهذه التوجهات ستؤدي إلى تغيرات جذرية في العلاقات الدولية، وبالأخص الاقتصادية منها، فقد انسحب ترامب منذ اليوم الأول لرئاسته من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى الإعلان عن سياسات تجارية حمائية متشددة، مما يعني أنه قد ينسحب أيضاً من منظمة التجارة العالمية، بسبب تناقض سياساته التجارية من أنظمة المنظمة الداعية للتحرر التجاري.
والأمر المهم للغاية بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي والعديد من الدول العربية المنتجة للنفط والغاز، يتعلق بإلغاء ترامب قرارَ الإدارة السابقة الخاص بالحد من تدفق استثمارات جديدة لاستخراج النفط والغاز لأسباب بيئية، حيث تم إلغاء هذا القرار فور تسلم الرئيس منصبه، معلناً دعمَه لزيادة الإنتاج.
وسوف تكون لهذا التوجه تأثيرات على الأسواق، وبالتالي على أسعار النفط بعد سنتين من الآن، إذ ليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى انخفاض كبير في الأسعار، حيث سيعتمد ذلك على مستويات العرض والطلب، وكذلك مدى قدرة واشنطن على زيادة الإنتاج بالسرعة التي يطالب بها الرئيس، خصوصاً أن الزيادة ستأتي أساساً من الحقول البحرية أو النفط والغاز الصخريين، مما يتطلب حل جوانب فنية وتكنولوجية، بالإضافة إلى تكاليف الإنتاج، علماً بأنه لا بد من الاستعداد لكل الاحتمالات، بما فيها انخفاض الأسعار بنسبة كبيرة.
وفي هذا الجانب، تطرقت مقالة الأسبوع الماضي إلى الجزئية الخاصة بنمو الناتج المحلي الإجمالي الخليجي، وعلاقته بالقطاع النفطي، والذي حققت فيه دول المجلس تقدماً ملحوظاً، إلا أن هناك جزئيات أخرى لا بد من الانتباه لها والعمل على التخفيف من تأثيراتها. فالنفط بالنسبة للاقتصادات الخليجية مازال يشكّل نسبة تتراوح بين 60 و80% من تمويل موازنات هذه الدول، حيث يعتبر ذلك خللاً يتطلب العمل على تداركه من خلال سياسات مالية متوازنة، تؤدي إلى نفس العلاقة بين النمو والقطاع النفطي، بمعنى ألا يتجاوز اعتماد الموازنات على العائدات النفطية نسبة 30 إلى 40% من الإيرادات، وهو أحد الترتيبات التي لا بد من النظر فيها ضمن التحضير للتداعيات المحتملة لسياسة ترامب الخاصة بالطاقة، بالإضافة إلى مساهمة هذا التوجه في تقوية الاقتصادات الخليجية وتعزيز قاعدتها للتحضير لفترة ما بعد النفط.
وثاني الاهتمامات التي تخص الاقتصادات الخليجية، التطورات القادمة الخاصة بتوجهات الرئيس ترامب حول الحمائية التجارية، وهذه مسألة ذات أهمية للصادرات الخليجية، مثل الألومنيوم والمنتجات البتروكيماوية، إلى جانب قطاعات أخرى مهمة، مثل النقل الجوي والاستثمارات الخارجية، بالإضافة إلى التطورات الجيوسياسية التي يتوقع أن تعقب قرارات ترامب. وإذا كانت مؤسسات مصرفية ومالية، بما فيها أمريكية قد شكّلت فِرق عمل للتعامل مع هذه التطورات، فإن مثل هذه الفرق تشكّل أهمية مضاعفة للدول لارتباطها بمصالحها الحيوية ومستقبلها التنموي.

*خبير ومستشار اقتصادي