من الواضح للمتابع أن الإقليم يعيش حالةً تضجّ بالغليان، وماكان حادث 7 أكتوبر مفاجئاً، وإنما له أبعاده وأهدافه. من ضمنها إيقاف صيغ التصالح والتسامح والتعايش التي تقاد من زعامات دول التنمية الصاعدة. ولكن البعض حاول تبويب موقفه الأصولي ضمن قضيةٍ معيّنة للوصول إلى تغيير بوصلة الأفكار التنموية نحو الإدارات الثورية.
وهذه الحيل معروفةُ منذ زمن. لاشيء يستفز التثوير مثل خطط التنمية والحيويّات المدنية. إن كل مشروع تنميةٍ يبدأ يعني تلقائياً طرد الأصولية. وبخاصةٍ أن البعض منهم اليوم يتداول مفاهيم سياسية من دون وعيٍ بها، وإنما تلقوها مفاهيم مثل: «الديمقراطية» أو «الدولة» و«العقد الاجتماعي» و«حقوق الإنسان».
كما أن الفهم التقني الأداتي للديمقراطية لم يكن إلا ضمن الحيل الثورية، ذلك أن رسم خطط الخلاص بالنسبة لهم يحتاج إلى شعارات برّاقة، وكان لمفهوم الديمقراطية دوره في إشعال جذوات الحماس لدى الأصولية، والتحركات الجماهيرية الثورية عبر التاريخ.
يؤرخ جورج طرابيشي لذلك في كتابه: «في ثقافة الديمقراطية»، وتحديداً للحظة نشوء التصوّر المتواضع للديمقراطية إذ يعتبر أن: «القرن العشرين بقدر ما كان في نصفه الأول قرن الآمال الثورية العريضة، كان في نصفه الثاني قرن الكوابيس التوتاليتارية والبيروقراطيات السلطوية. وخيبة الأمل بالثورة هذه هي التي فرضت طوال حقبةٍ مديدة تصوراً متواضعاً وإجرائياً للديمقراطية بوصفها محض آلية للحد من سلطة الدولة وهيمنتها».
أما عن محاولة الاستيلاء على مفهوم «العقد الاجتماعي»، فإن الإجراء التعاقدي الذي يتمتّع به الفرد بالمجتمعات الحديثة له بعده القانوني، إذ يرتبط بتحقيق مستويات العدالة، والليبرالية كلها بمفهومها النهائي، وهي إجراءت لتحديد وضبط مستويات الليبرالية ضمن شبكة المجتمع ومساحات التحرّك لا لغرضٍ عاطفي أو ديني أو أيديولوجي، بل لموضوع يوازن بين مصلحة الإنسان ومجتمعه. ومناخ الليبرالية الحر هو ميدان لتحقيق وتنمية قدرة الفرد على تحمّل مسؤوليته تجاه الأفراد الآخرين، ليكون لجم النزعات الشريرة أو البريّة هدفاً مدنياً، لتصل المدنيّة بمستوى التعاقد إلى حدّ تقلّص ضرورة حضور علامات السلطة كالأجهزة الأمنية أو التداخلات الاجتماعية.
الخلاصة، أننا أمام طوفان جارف جديد هدفه إعادة صياغة التمرّد، ولكن هذه المرة بأساليب فكرية ومفهومية وفلسفية على عكس ما كان عليه الأمر من قبل، ولذلك نرى العديد من المثقفين جرفتهم الشعارات نحو ميادين أصولية من دون اعتبارٍ من الدروس الماضية.
إن مجاميع الأصولية اليوم بمنظريها يستعملون مفردات فلسفية ومفاهيم سياسية تم تلقينهم بها، وآية ذلك أن الجمل التي يستعملونها اليوم غير التي كانت على ألسنتهم قبل عقدين، فالفهم لهذه الظواهر واجب، والانتباه للحيل ضرورة أمنية ووطنية واجتماعية. ولئلا ينطلي الكلام المنمّق علينا لابد من فهم التحرّك الذي يريدونه. إنهم يحتالون على أفكار الناس ويحاولون التشويش على الجيل البريء المتعلم الصاعد، الذي لم يعِش كل تلك النزاعات منذ السبعينات إلى اليوم، والهدف تعبئة جيلٍ لم يعرفهم من قبل بأساليب جديدة وغير شائعة.
*كاتب سعودي