خلال الفترة الفاصلة بين انتخاب الرئيس الأميركي وتنصيبه، حاولت الإدارة السابقة أن تؤكّد صوابَ سياساتها وجدواها، واتخذت تدابير للحؤول دون أي تغيير جوهري تعتزمه الإدارة الجديدة في عدد من الملفات الاستراتيجية، ومنها خصوصاً التحالف الغربي لدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، والصراع التجاري مع الصين، والمواجهة مع إيران حول برنامجها النووي. لكن عواصم العالم التي عرفت دونالد ترامب في ولايته الأولى سرعان ما أدركت أن الأعوام الأربعة التي أمضاها خارج البيت الأبيض لم تكن كافية لإزالة نهجه، أو لمنع إعادة انتخابه، فوجدت نفسها مجدداً أمام تغييرات بدأت إرهاصاتها حتى قبل تنصيبه، واصطفافات كانت اعتقدت أنها ولّت. لذا تردّد كثيراً في الآونة الأخيرة مصطلح «البراغماتية» كطريقة تعامل مع إدارة ترامب.

ويتعامل ترامب مع العالم بخيارات جذرية، كما يتعامل مع أميركا نفسها. لم يتخيّل أحدٌ في السابق أن تقيم الولايات المتحدة جداراً فاصلاً مع المكسيك للحدّ من الهجرة غير الشرعية، لكنها فعلت ذلك مع ترامب. ومع أن إعلان «حالة الطوارئ الوطنية» لتوقيف المهاجرين وترحيلهم أثار استهجاناً، فإنه جاء استجابةً لمطالب شعبية ربطت الهجرة بالدواعي الأمنية.

أما الذهاب بمكافحة الهجرة إلى حدّ إلغاء حق نيل الجنسية الأميركية عند الولادة، فقد عنى أن أميركا لم تعد أميركا التي يعرفها العالم، لكن قرار أحد القضاة تعليق العمل بهذا الإجراء لـ«عدم دستوريته» مؤشّر إلى صعوبة تغيير إحدى ميزات أميركا بمجرد مرسوم رئاسي. وتبقى التحديات الأكثر صعوبةً في السياسات الخارجية، إذ أن ترامب يلعب أوراقه مكشوفةً، فهو «لا يريد حروباً» وربما لا يرغب في فرض مزيد من العقوبات كوسيلة لممارسة النفوذ، لكنه الرئيس الأميركي الذي سيختبر نوعاً آخر من العقوبات. كان بالغ الصراحة في قوله، إن لدى أميركا «نفوذاً» يتمثّل بالرسوم الجمركية، وفي طلبه زيادة الاستثمار في الاقتصاد الأميركي، كما في تهديده: «اصنعوا منتجاتكم في أميركا أو واجهوا الرسوم الجمركية».

بل تَعهّد بالتنقيب عن النفط وإنتاجه وطلب خفض أسعاره سعياً إلى خفض التضخّم. ثم إنه ربط خفض أسعار النفط بوضع حدٍّ للحرب في أوكرانيا، لكن موسكو لا تتفق مع هذه النظرية. وبمقدار ما تتضمن توجّهات ترامب إشارات إلى أزمات مزمنة يعيشها الاقتصاد الأميركي، بمقدار ما أن السياسات التي يطرحها تنطوي على رهانات صعبة ومقلقة للحلفاء والخصوم من دون أن تحقق الغاية المرجوّة في الداخل الأميركي، وفقاً لتحذيرات خبراء أميركيين ودوليين. لا أحد يشكك في تأثير الولايات المتحدة، لكن فاعليته تكمن في قدرته على إيجاد توازنات، أي في إثبات أن المزيد من المصالح الأميركية لا بدّ أن يحافظ على المصالح الاقتصادية والسياسية للأطراف الأخرى، وليس بإجبار العالم على المساهمة بترميم الهيمنة الأميركية وإعادتها إلى سابق عهدها.

فالدول كافة، وبفعل الحروب والنزاعات الإقليمية والأزمات الاقتصادية، باتت أكثر اندفاعاً إلى سلوك سبل شتى لتأمين مصالحها. صحيح أن النماذج الأخرى لم تتوصّل بعد إلى اقتراح بديل متكامل عن النموذج الأميركي، إلا أن هذا النموذج لم يعد قادراً على الوفاء بتعهّداته المبدئية، فعلى سبيل المثال تتخوّف أوروبا من انهيار تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة، سواء بزعزعة تماسك حلف شمال الأطلسي أو بتسويةِ «أمر واقع» في أوكرانيا لا تراعي مبادئَ السيادة والقوانين الدولية. والأمثلة كثيرة في مختلف أنحاء العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط، حيث لا يمكن للأمر الواقع أن يصنع سلاماً ولا استقراراً.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن