يشهد العالم مرحلة انتقالية من الصناعات التقليدية إلى الصناعات المعتمدة بصورة أكبر على التقنيات الحديثة، والتي تختلف مكوناتها ومتطلباتها عن الصناعات التي نمت بعد الثورة الصناعية قبل أكثر من قرنين، إذ فتحت الاكتشافاتُ التكنولوجية مجالاتٍ جديدةً لم تكن معروفة من قبل. كما تعتمد هذه الصناعات الجديدة على معادن ومكونات مختلفة عن سابقتها.
ومن هنا برزت مجالات تنافسية جديدة وصراعات على مصادر المعادن ومكونات الصناعات الجديدة مشابهة للصراعات التي دارت قبل قرن على مصادر الطاقة، وبالأخص النفط، حيث يترافق ذلك الآن مع محاولة الهيمنة على الطرق التجارية.
وفي نطاق ذلك يمكن فهم تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الخاصة بكندا وقناة بنما وجزيرة غرينلاند، والتي أعلنها بوضوح لا لبس فيه، رغم الشكوك في قدرته على تنفيذ ذلك.
إن افتقار الولايات المتحدة لهذه المعادن أو محدودية احتياطياتها منها تضعها في موقف ضعيف أمام دول أخرى تزخر بهذه الثروات الطبيعية، وبالأخص الصين وروسيا، إضافة إلى محاولة الدولتين التحكم في الطرق البحرية وخطوط الإمدادات، الأولى ضمن مشروعها الضخم المسمى «الحزام والطريق»، والأخرى من خلال سيطرتها الفعلية على أكثر من نصف القطب الشمالي، وبالتالي الطرق الموعودة بين الشرق والغرب مع ذوبان الثلوج الناجم عن التغير المناخي.
وتحتوي المناطق الثلاث التي أعلن ترامب نيته للسيطرة عليها، إما على ثروات طبيعية غنية بالمعادن التي تتطلبها الصناعات الحديثة، وبالأخص الليثيوم والنيكل، كما هو الحال بالنسبة لغرينلاند وكندا، أو تتمتع بأهمية لوجستية كما هو الأمر بالنسبة لقناة بنما وجزيرة غرينلاند معاً. فقناة بنما تعد الممر الرئيس لتجارة الولايات المتحدة، حيث تمثل سفنها 80% من إجمالي السفن العابرة لهذه القناة، إلا أن ذلك لم يمنع بنما من الانضمام إلى مشروع «الحزام والطريق» في عام 2017، وهو ما أثار حفيظة واشنطن، واعتبرته محاولة من الصين للسيطرة على هذا الممر الحيوي للتجارة العالمية، وبالأخص للولايات المتحدة.
أما كندا فإن أراضيها غنية بالمعادن، بالإضافة إلى ثروتها الكبيرة من النفط والغاز، وامتداد أراضيها على مناطق شاسعة من القطب الشمالي، علماً بأنها ترتبط بعلاقات اقتصادية واستراتيجية قوية مع واشنطن، مما يعني أنها مضطرة للمساومة لتجنب الأسوأ.
وبالنسبة لغرينلاند فهي أكبر جزيرة في العالم، وهي تتوسط الولايات المتحدة والدنمارك التي تمتلكها، كما تتمتع بالميزتين معاً، أي بالموقع اللوجستي المهم والثروات الطبيعية الوفيرة، مع عدد سكان ضئيل لا يتجاوز 57 ألف نسمة، ما يجعل الدفاع عنها أمام أكبر قوة عسكرية أمراً مستحيلاً.
وترمي توجهات الرئيس ترامب فيما يخص غرينلاند إلى امتلاك ثرواتها الطبيعية لتعويض النقص الذي تعانيه بلاده في بعض المعادن المهمة، والذي قد يحد من تقدمها التكنولوجي. كما ترمي هذه التوجهات إلى السيطرة على بعض الطرق البحرية الواعدة في القطب الشمالي لربط آسيا بأوروبا والأميركتين، ومنافسة روسيا التي قطعت شوطاً كبيراً في السيطرة على هذه الممرات، من خلال كاسحات الجليد التي تمتلك خمسين منها أو أكثر، مقابل ثلاث فقط للولايات المتحدة.
والسؤال الأهم هو: هل تشكل توجهات ترامب وتصريحاته محاولة جادة للسيطرة على المناطق الثلاث؟ أم انه يستخدم ذلك أداة ضغط للهيمنة غير المباشرة ذات الطابع الاقتصادي واللوجستي؟ لابد أن نلاحظ هنا إعلانه بأن هذه التوجهات تتعلق بالأمن الاقتصادي للولايات المتحدة!
ولعل الاحتمال الثاني هو الأقرب للواقع، خصوصاً أن هناك مقاومة شديدة مدعومة من الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الفاعلة، إذ ربما يعقد ترامب اتفاقيات مع كندا والدنمارك لمنحة امتيازات كبيرة للاستثمار في استخراج المعادن من خلال شركات أميركية، وكذلك اتفاقيات تمنحه السيطرة على جزء من طرق التجارة في القطب الشمالي، إلى جانب الاتفاق مع بنما لإدارة القناة بصورة مشتركة بغية إبعاد الصين وعرقلة محاولة مد مشروعها «الحزام والطريق» إلى مقربة من حدود الولايات المتحدة، إذ إن موازين القوى العالمية لا تسمح بالهيمنة المباشرة والتي قد تفتح أبواب جهنم على الجميع. 

*خبير ومستشار اقتصادي