رافقت الحربَ الروسية الأوكرانية حروبٌ جانبية عديدة، منها الحرب التجارية والمالية والإعلامية، إلا أن أشدها ضراوة هي حرب الطاقة، وذلك لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها كون النفط والغاز يشكلان العمودَ الفقري للاقتصاد الروسي، والمصدر الأساسي للصادرات ولتمويل الموازنة الاتحادية. كما أن اعتماد الاتحاد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية، وبالأخص الغاز، اعتماد كبير للغاية، إذ رغم محاولة التقليل من هذه الأهمية، فإن صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا ارتفعت في عام 2024 بنسبة 14%.
وقد أدار كل من الاتحاد الأوروبي، وروسيا سياساتهما في مجال الطاقة بصورة مختلفة؛ فالاتحاد الأوروبي خضع لضغوط كبيرة من أجل التخلي عن مصادر الطاقة الروسية رغم جدواها التجارية، مقارنة بالمصادر المستوردة من الولايات المتحدة والشرق الأوسط، ما كلف دول الاتحاد مبالغ طائلة، وولّد أزمات اقتصادية أطاحت بعض الحكومات، وأحدثت «تمرداً» بين أعضاء الاتحاد، بعضهم فعل ذلك بصوت مرتفع، كموقف المجر وسلوفاكيا، وبعضهم الآخر بصوت منخفض وعلى استيحاء، كموقف رومانيا وإيطاليا التي دعت مؤخراً لتحديد سعر الغاز عند 60 دولاراً لكل وحدة ميغاوات/ساعة.
ويبدو أن الرقم 60 محبب لدول الاتحاد! ففي العام الماضي حددت 60 دولاراً سعراً لبرميل النفط الروسي، وقد ذكرنا هنا وقتها أن هذه الآلية لن تعمل لأسباب فنية وتقنية تتعلق بطبيعة السوق، وهو ما حدث بالفعل، حيث تبيع روسيا نفطها، سواء مباشرة أو عن طريق طرف ثالث بأعلى من هذا السعر.
والآن نقول مرة أخرى، وللأسباب نفسها، إن الاقتراح الإيطالي بتحديد سعر الغاز سوف لن يكتب له النجاح، خصوصاً أن هناك طلباً متنامياً في الأسواق العالمية، كما أن البديل الأساسي للغاز الروسي حالياً هو الغاز الأميركي، حيث يتعامل العم سام مع الأسواق بمهنية تجارية بعيداً عن الحسابات الأخرى، وهو ما أشار إليه سيد البيض الأبيض القادم دونالد ترامب.
أما روسيا فتعرف جيداً الأرضية الصلبة التي تقف عليها، خصوصاً أنها لم تعان في السنوات الثلاث الماضية من أي إشكالية تتعلق بتسويق كامل إنتاجها المخصص للتصدير، وهذه الأرضية دفعت موسكو لتوجيه ضربة مؤلمة في وقت شتوي صعب باتخاذه قرار وقف تدفق الغاز لأوروبا، من خلال «خط الصداقة» الأوكراني، بعد أن انتهت الاتفاقية الخاصة بذلك، علماً أنه تم قبل عامين تفجير خط «نورد ستريم» الممتد عبر بحر البلطيق، والذي يزود أوروبا أيضاً، وبالأخص ألمانيا، بالغاز الروسي علماً، مع أن ألمانيا هي مَن قامت بالتمويل أساساً.
وبعد تعطل هذين الخطين، بقي في الخدمة الخط التركي «ترك ستريم» القادم من روسيا، وهو الذي تستفيد منه إيطاليا ودول البلقان البعيدة نسبياً عن الصراع، إلا أن معظم الدول الأوروبية المستوردة للغاز الروسي أصيبت بضرر، حيث أوقفت مقاطعة مولدوفية على سبيل المثال التدفئة وإمدادات المياه الساخنة في ظروف شديدة البرودة، كما ستترتب على ذلك عواقب اقتصادية أشد وطأة بسبب اعتماد الكثير من المصانع، وبالأخص في ألمانيا، على مصادر الغاز الروسية، علماً أن البديل الأميركي تَفُوق أسعارُه ثلاثة أضعاف أسعار مثيله الروسي، ما يعني زيادة كبيرة في تكاليف الإنتاج الصناعي، وتراجعاً مماثلاً في القدرات التنافسية، وحدوث عجوزات في الموازنات الأوروبية.
وبالتالي، فإن دول الاتحاد الأوروبي تقف أمام خيارات صعبة جداً، فمن جهة تواجه موقفاً أميركياً ضاغطاً يسعى إلى بيع الغاز بأسعار مضاعفة، ومن جهة أخرى تواجه موقفاً قوياً من روسياً التي تدافع عن مصالحها بشراسة معتمدةً على قوة اقتصادها الذي يحقق معدلات نمو جيدة بلغت 3.1% عام 2024، في حين لا يتوقف الرئيس الأوكراني عن المطالبة بالمزيد من المليارات، في الوقت الذي يفقد فيه المزيد من الأراضي في حرب غير متكافئة.
والبديل ربما قادم مع الرئيس ترامب القادم في 20 من يناير الجاري، وذلك من خلال تفاهمات ومساومات مع روسيا، ستتوفر لها أرضية النجاح مع التوقعات الخاصة بتغيير بعض الحكومات الأوروبية، وبالأخص في ألمانيا من خلال الانتخابات المقررة في 23 فبراير القادم، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد «المتمردين» داخل صفوف الاتحاد الأوروبي، ما قد يضع حداً لحرب الطاقة المكلفة جداً.

*خبير ومستشار اقتصادي