ظل حلم الوصول إلى المياه الدافئة يراود حكومات روسيا المتعاقبة منذ عهد القياصرة. حلموا بأن يكون لبلدهم موطئ قدمٍ في البحر الأبيض المتوسط أو البحر الأحمر اللذين يستمدان أهميتَهما الكبيرة من موقعهما الحيوي ممرين للتجارة البحرية الدولية، ووجودهما في ملتقى الطرق التي تربط بين كل من أوروبا وآسيا وأفريقيا، وكذلك دول الأميركتين التي يمكن الوصول إليهما عن طريق المحيط الأطلسي عبر مضيق باب المندب، وجبل طارق وقناة السويس. وما إن تحقق هذا الحلم، عبر حصول روسيا على قاعدة جوية في حميميم ومنشأة بحرية في طرطوس، حتى حدث تغيير مفاجئ في سوريا، وصار مستقبل هذه المنشأة وتلك القاعدة غامضاً. ولهذا يُطرح السؤال عن إمكانات احتفاظ روسيا بوجودها هذا في مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة.
والمتوقع الآن أن تبذل موسكو أقصى جهد للبقاء بشكل ما في حميميم وطرطوس، وذلك لما لهذا الوجود من أهمية غير عادية بالنسبة إلى دورها في الشرق الأوسط ومنطقة الساحل الأفريقي. فقد أصبحت قاعدة حميميم الجوية، التي أُنشئت بموجب اتفاقية مع الحكومة السورية في أغسطس عام 2015، مركزاً رئيساً للقوات الروسية في موقع استراتيجي بالغ الأهمية، وفي لحظة تاريخية يتصاعد فيها الصراع بين موسكو والغرب إلى مستوى غير مسبوق. كما تعتمد روسيا على هذه القاعدة في نقل قوات تابعة لـ«الفيلق الأفريقي» إلى البلدان التي تحتاج إلى خدماته في منطقة الساحل الأفريقي، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو.. وغيرها من الدول في أنحاء أخرى من القارة، في إطار التعاون مع الجيوش الوطنية لهذه الدول. كما يوجد في القاعدة برج لمراقبة الحركة الجوية، وبالطبع مدرج لإقلاع الطائرات وهبوطها، ومحطات وقود، ومساكن للجنود.
ولا تقل أهمية المنشأة البحرية في طرطوس، بل تزيد. وهي ليست قاعدة عسكرية، بل نقطة للإمداد والتموين والدعم اللوجيستي للبحرية الروسية. ولهذا تستطيع السفن الحربية الروسية البقاء في البحر الأبيض المتوسط، ولا تحتاج للعودة إلى موانئ البحر الأسود إلا في حالة الرغبة في استبدالها. ولذلك فإن هذه المنشأة تُجَسِد وجودَ موسكو في المياه الدافئة، بل في موقع من أهم المواقع في هذه المياه. وعلى الرغم من أن وجود روسيا في طرطوس يعود إلى مطلع سبعينيات القرن الماضي، فقد بقي محدوداً للغاية إلى أن وقعت في أبريل 2019 اتفاقية مع الحكومة السورية لاستئجار المنشأة التي تقع في الطرف الشمالي لميناء طرطوس البحري، ولمدة 49 عاماً، وشرعت في استخدامها أيضاً مركزاً لوجيستياً للسلع التي تُصدّرها روسيا إلى دول أفريقية عدة.
ونظراً لأن أهمية منشأة طرطوس البحرية تبدو أكبر على هذا النحو، فالأرجح أن تعطيها موسكو الأولوية إذا كان عليها أن تقبل حلاً وسطاً حين تُجرى مفاوضات بشأن مستقبل وجودها في سوريا. وفي حالة الاتفاق على بقاء هذه المنشأة قد تُعدَل اتفاقية 2019 لتتضمن تقديم مساعدات روسية تحتاج سوريا إليها، وهو ما أشار إليه الرئيس بوتين قبل أيام، حين قال إن الحفاظ على وجود روسيا يستلزم أن نفعل شيئاً من أجل سوريا.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية