نحن العاملين في وسائل الإعلام والطبقة الثرثارة نظرنا إلى جيمي كارتر باعتباره سياسياً قادماً من الريف. لكن كارتر، الذي توفي يوم الأحد الماضي عن عمر يناهز 100 عام، ربما استطاع تحسين حياة عدد أكبر من الناس على مدى فترة طويلة أكثر من أي رئيس أميركي في العقود الأخيرة.
فقد كان رئيساً أفضل بكثير مما هو معترف به عموماً – كما أنه الرئيس الأميركي الوحيد في العصر الحديث الذي لم يفقد جندياً واحداً في القتال (وإن فقد 8 من العسكريين في حادث تصادم جوي خلال مهمة إنقاذ الرهائن الفاشلة في إيران). كما كان كارتر أفضل رئيس أميركي سابق على الإطلاق: ذلك أن مئات الملايين من الناس حول العالم يعيشون اليوم حياة أفضل بفضل جهوده الدؤوبة للتغلب على العنف والمرض.
ولهذا، فإن وفاته هي لحظة لإعادة تقييم إرثه، ولكنها أيضاً فرصة للتفكير في كيف أننا أخطأنا - في وسائل الإعلام وعالم السياسة - في فهمه وعاملناه بإجحاف. لقد سبق لي أن تعاملتُ مع 8 رؤساء أميركيين بشكل ما (وقد تعرفتُ على كارتر لأول مرة حينما كنت طالباً في المدرسة الثانوية أغطي ترشحه للرئاسة عام 1976)، ويمكن القول إن كارتر يتميز بـ 3 طرق: أولاً، كان أقل تركيزاً على نفسه من أي زعيم آخر عرفته تقريباً، ذلك أنه لم يسع أبداً إلى الثراء، واستمر في العيش في المنزل المتواضع نفسه الذي بناه هو وزوجته روزالين عام 1961 في بلينز بولاية جورجيا. وكان مكتبه عبارة عن مرآب سيارة. ثانياً، واجه تحديات خارقة: السلام في الشرق الأوسط، القضاء على دودة غينيا، الاستقلال في مجال الطاقة، الترشح في الانتخابات الرئاسية. ثالثاً، كان كارتر يسترشد بالمبادئ أكثر من السياسة، وسعى إلى استخدام منصته لمساعدة الآخرين، كان يفعل ما يعتقد أنه صحيح وصائب حتى حينما يكون مكلِّفاً سياسياً. لقد تشكّل إعجابي بكارتر عند رؤيتي له في الميدان.
ففي عام 2007، رافقته في رحلة إلى أفريقيا، حيث شرح لي رغبته الكبيرة في القضاء على مرض دودة غينيا وفي أن يصبح ثاني مرض بشري يتم القضاء عليه إلى الأبد بعد الجدري. وأخبرني عن رؤيته للمرضى وهم يعانون من دودة غينيا التي تبدو كخيط أبيض طويل أشبه بالسباغيتي ويمكن أن تنمو بطول 90 سنتمتراً تحت الجلد. العديد من الأميركيين يعترفون الآن بأن كارتر أبلى بلاء حسناً كرئيس سابق.
كارتر هو من حرر الصناعة الأميركية (النقل بالشاحنات وشركات الطيران والغاز الطبيعي) أكثر من ريجان.ولعل الأهم من ذلك هو أن كارتر نجح في رعاية اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل. وعلى كل حال، كان من المنطقي أن يتحدث كارتر دفاعاً عن الفلسطينيين، على اعتبار أنه كان أول رئيس أميركي يضع حقوق الإنسان بقوة على الأجندة العالمية. وحينما تسمع الحكومات حول العالم تنتقد بعضها البعض، بنفاق أحياناً، بسبب انتهاكها حقوق الإنسان، فإن كارتر هو من رفع هذه القضية. وبعد هزيمته في عام 1980، عاد كارتر إلى بلينز، وترك الغولف، ومجالس إدارة الشركات، والخطب المربحة، ووضع موضوع السلام العالمي نصب عينيه. وساعد «مركزُ كارتر» على التفاوض على صفقات السلام، وراقب الانتخابات، وحارب الأمراض الاستوائية. في ليبيريا، رأيتُ مشاريعه لإحلال السلام وإنهاء العنف. وفي إثيوبيا والنيجر، رأيت عمله ضد مرض «العمى النهري». وفي هايتي، رأيت جهوده ضد التشوهات الناجمة عن داء الخيطيات اللمفاوية. وفي جنوب السودان، رأيت عمله ضد دودة غينيا. لقد انضممتُ إليه في تلك الزيارة إلى أفريقيا لأن مساعديه أخبروني بأنها ستكون آخر جولة خارجية كبيرة له. فبدا لي كل ذلك فرصة تاريخية.
ولدى وصوله إلى قرية نائية، جلس ببنطاله الأزرق، وبدأتُ مقابلتي بالقول: إن هذه كانت آخر رحلة خارجية كبيرة له، فقاطعني كارتر وحدّق في وجهي، وسألني: «ما الذي أوحى لك بهذه الفكرة؟». وبدا لي أنه يخطِّط للقيام بجولة في القرى الإثيوبية النائية حتى عيد ميلاده المئتين ربما. كلّا، لم يتمكن كارتر من تحقيق ذلك تماماً، ولكن قلة قليلة فعلت مثلما فعل من أجل جعل هذا الكوكب مكاناً أفضل.
كاتب وصحافي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»