مع تغير النظام في سوريا، تكون هذه الدولة قد دخلت مرحلةً جديدةً تحمل معها الكثيرَ من التحديات والصعاب، وذلك بعد 14 عاماً من الحرب الأهلية ودخول العديد من الأطراف العالمية والإقليمية في النزاع مباشرةً، مما أدى إلى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ وصراعات متعددة.
وقد ركزت غالبية التحليلات التي أعقبت سقوط النظام على الجوانب السياسية والجيوسياسية التي ستتمخض عن سيطرة القوى الجديدة على مقاليد الحكم في دمشق، حيث يعتبر ذلك مسألة طبيعية في الأحداث الكبرى، إلا أن هناك تحديات أخرى ستحدد مسار التوجهات المستقبلية، أي تلك الخاصة بالتحديات الاقتصادية والتي ستلعب دوراً حاسماً في تحديد مستقبل سوريا وطبيعة النظام الذي سيدير الأوضاع هناك.
ومن المعلوم أن الاقتصاد السوري في حالة يرثى لها بعد أن مزقته الحرب على مدى أكثر من عقد، وهي فترة زمنية طويلة، فقدَ خلالها الاقتصادُ المحلي 85% من حجمه، وفق البنك الدولي، مما يعني أنه تم تدمير مئات المصانع والمؤسسات الاقتصادية والتعليمية والصحية، بالإضافة إلى انهيار العملة الوطنية «الليرة» والتدمير الهائل الذي طال البنية التحتية.
وفقدت سوريا أهم قدراتها البشرية من مهندسين وأطباء ومهنيين ورجال أعمال متخصصين، وذلك بسبب هجرة أكثر من خمسة ملايين إلى الخارج، حيث استقطبت العديد من الدول هذه الكفاءات النادرة، وبالأخص ألمانيا الاتحادية التي استقبلت مليون لاجئ، من بينهم الكثير من المهنيين الذين يحتاج إليهم الاقتصاد هناك، والذين سيساهمون في سد النقص في العديد من المجالات التنموية والخدماتية، حيث قال وزير الصحة الألماني إنه من دون الأطباء السوريين البالغ عددهم أكثر من 5 آلاف طبيب، فإن القطاع الصحي سيعاني أزمة.
لذلك، فإن سوريا بحاجة لما يتراوح بين 600 و800 مليار دولار، وفق العديد من المصادر، لإعادة بناء اقتصادها، إذ من غير المتوقع عودة الكثير من المهاجرين بعد أن قاموا بترتيب أوضاعهم في بلدان المهجر واكتسبوا جنسيات بلدان غنية ومتطورة، حيث عبر 47% فقط من المقيمين في ألمانيا عن رغبتهم في العودة.
ويعتبر ذلك أهم تحدٍّ يواجهه النظام الجديد، إذ على افتراض استقرار الأوضاع السياسية والأمنية، فإن الناس ستلتفت إلى ما يمكن أن يقدم إليها على مستوى الحياة المعيشية والخدمات الأساسية. فمع عودة اللاجئين سيكون هناك مئات آلاف العاطلين عن العمل، حيث لا يمكن للقطاعين الحكومي والخاص استيعابهم، وبالنسبة للأول فبسبب فقدانه مصادر دخله الأساسية، بما في ذلك عائدات النفط، وبالنسبة للقطاع الثاني فبسبب الدمار الذي لحق بمؤسساته وما فقده من عائدات ومدخرات، علماً بأن البعض قد نقلوا مدخراتهم واستثمروها في الخارج.
وتحتاج عملية إعادة البناء إلى استثمارات هائلة لا يمكن للحكومة الحالية توفيرها، وذلك على الرغم من تمتع سوريا بثروات طبيعية وزراعية مهمة، وبقطاع تجاري نشط، وموقع استراتيجي حيوي للنقل والمواصلات.. مما يعني أنها ستكون بحاجة ماسة لمشروع تنموي تساهم فيه الدول الغنية. إلا أن ذلك لن يتم قبل أن تتضح رؤية وتوجهات النظام الجديد وكيفية تعامله مع مختلف أطياف المجتمع السوري والقوى العالمية والإقليمية الفاعلة.
وبالإضافة إلى الدعم المالي الخارجي، فإن استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بما في ذلك من رجال الأعمال السوريين المغتربين، يحتاج إلى ضمانات وأنظمة وقوانين ما زالت غير متوفرة، وإلى بنية تحتية ما زالت تعاني من النقص، وإلى خدمات لوجستية بحاجة للتطوير.
وعدا عن ذلك، فإن الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية لن تستقيم، وهذا ما يجب أن يكون مفهوماً بصورة صحيحة. فالمجتمع سوف يتجاوز الشعارات بصورة سريعة لينظر إلى ما يمكن أن يقدَّم له من مستويات معيشية كريمة في بلد يزخر بالكثير من الموارد والثروات.
ونظراً لأهمية سوريا وموقعها، فإن استقرارها يعتبر مسألة مهمة لأمن محيطها، مما يتطلب العمل على عدم انزلاقها للتطرف، وذلك عبر انتشال اقتصادها من الدمار الذي حل به، إذ من المعروف أن الفقر والبطالة يمثلان أهم بيئة حاضنة للتطرف بكافة إشكاله، وأن توفير مستويات معيشية مقبولة يعتبر سداً قوياً أمام منحى التطرف وعدم الاستقرار، وهذه مهمة صعبة، إلا أنها المخرج الوحيد لوضع سوريا على طريق التقدم والنمو.

*خبير ومستشار اقتصادي