مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، يوم الثامن من ديسمبر الجاري، على أيدي جماعات المعارضة المسلحة، تبعثرت أركان النظام من قيادات الصف الأول في الحكومة والقيادة العسكرية والأمنية والحزبية.. وظهر للعيان إرث ثقيل من الجرائم المروعة صدمت الضمير العالمي، خاصةً لدى تحرير المساجين والمعتقلين في السجون، ودخلت وسائل الإعلام أقبيةَ الرعب في السجون، وظهرت أسماء وقصص تروى مأساة تجسدها وجوه وأجساد الناجين من المسالخ البشرية.

وبعد تخطي الصدمة والفرحة بدأت التساؤلات تتوالى: وماذا بعد؟ كيف يمكن للمجتمع السوري التعافي من المأساة؟ وكيف يمكن لأطيافه الوصول إلى حالة السلم الاجتماعي والتعايش الطبيعي ونبذ العنف والصراع وتحقيق السلام الدائم والمصالحة الشاملة في مرحلة ما بعد الأسد؟ليس أهم من سقوط نظام الأسد وتفكك أوصاله إلا مرحلة ما بعده وطريقة إدارتها، إذ يتطلب ذلك بدايةً معالجةَ عقود من الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة السابقة، وأطراف الصراع خلال النزاع الذي استمر 13 عاماً، وضمان المساءلة والعدالة وحماية السوريين بغض النظر عن خلفياتهم الإثنية أو الطائفية أو انتماءاتهم السياسية، وهو ما يبين الحاجة إلى تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا، سعياً إلى وقف انتهاكات حقوق الإنسان، والتحقيق في جرائم الماضي، وتحديد المسؤولين عن كل الانتهاكات، وتقديم تعويضات للضحايا، إضافة إلى منع الانتهاكات في المستقبل، والعمل على تعزيز المصالحة الوطنية.

وتتطلب عملية تحقيق السلام الدائم في سوريا على المستوى الداخلي تفكيك ومعالجة الأسباب الهيكلية الباعثة للصراع، والدفع بمختلف الأطياف السياسية للعمل على إصلاح علاقاتهم البينية وإعادة بناء الثقة، ومعالجة وترميم الأضرار والتشوهات التي طرأت على مختلف صور التعايش في المجتمع السوري. لقد تنوعت التجارب الإنسانية الدولية في ترسيخ السلام وتحقيق المصالحة، وتعد الطريقة التي يتمكن بها المجتمع من معالجة الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان وتحقيق العدالة للضحايا عاملاً حاسماً في ترسيخ الاستقرار والسلام المجتمعي. ولعل من أبرز التجارب الإنسانية لترسيخ العدالة والمصالحة بين مكونات المجتمع، إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا (1990 – 1998)، بعد أول انتخابات ديمقراطية في البلاد، للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت خلال حقبة الفصل العنصري بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان والقتل والاختفاء القسري.

وعلى مدار سنوات عُقدت جلسات استماع علنية مكنت ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من الإدلاء بشهاداتهم، وأُتيح لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان أن يطلبوا العفو مقابل الكشف الكامل عن أفعالهم. وقد صدر التقرير النهائي للجنة الحقيقة والمصالحة ونشر عام 1998، وقدم توصيات بشأن التعويضات والإصلاحات.

وقال نيلسون مانديلا: «في سياق تعافي البلاد من صدمات الماضي وجروحه، عليها أن تبتكر آليات ليس لمعالجة الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان فحسب، بل أيضاً لضمان استعادة كرامة الضحايا والناجين وأقاربهم أيضاً».

إن معالجة الانتهاكات السابقة في سوريا بجب أن تضع هدفين أساسيين لجبر الضرر الناجم عن الانتهاكات ولمنع تكرارها، وذلك من خلال تعاطي السلطة السياسية الجديدة مع الضحايا والجناة بالمحاسبة والمساءلة القانونية، لتحقيق العدالة والسلام النفسي للضحايا. ويجب ضمان المساءلة والمحاسبة للجناة من خلال الآليات القانونية، ووضع برامج لجبر الضرر يمكن الاعتماد عليها في تحقيق العدالة وتجاوز آثار مظالم الماضي وضمان عدم العودة إليها في ضوء تحقيق واقع للتعايش السلمي يحقق العدالة بين أطياف المجتمع السوري كافة.

* كاتبة إماراتية