تشهد سوريا تحولات جوهرية فرضت نفسها على المشهد الإقليمي والدولي، وأبرز هذه التحولات سيطرة المعارضة المسلحة على دمشق ورحيل الرئيس السوري من البلاد، مما أنهى حقبة دامت 24 عاماً من حكمه. لم تقتصر هذه التغيرات على الداخل السوري، بل أثرت على التوازنات الدولية، حيث سارعت القوى الكبرى إلى إعادة تقييم سياساتها تجاه سوريا والمنطقة.

تاريخياً، كانت سوريا محوراً أساسياً في صراع القوى الإقليمية والدولية، مثل إيران وروسيا وتركيا، إضافة إلى الولايات المتحدة وحلفائها. مع تغير القيادة، يُتوقع أن تُعيد هذه الدول ترتيب أولوياتها وتموضعها، سواء للحفاظ على مصالحها أو لتعزيز نفوذها. بالنسبة لإيران، التي دعمت نظام الأسد عسكرياً واقتصادياً، فإن سقوط حليفها يضعف نفوذها الإقليمي.

إذ تعتبر سوريا حلقة وصل مهمة مع «حزب الله» في لبنان، وهو ما قد يدفع طهران إلى البحث عن سبل أخرى لتعزيز نفوذها في المنطقة. أما تركيا، فمن المرجح أن تستغل هذا التغيير لتعزيز وجودها العسكري شمال سوريا، حيث تسعى إلى مواجهة النفوذ الكردي وضمان أمن حدودها الجنوبية. في المقابل، تبدو روسيا في موقف صعب.

فمنذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، تمكنت من ترسيخ نفوذها في المنطقة، لا سيما من خلال قواعدها العسكرية في اللاذقية وطرطوس. ومع تغيير القيادة السورية، قد تسعى روسيا إلى التوصل إلى تفاهمات مع السلطات الجديدة لضمان بقاء نفوذها العسكري والاقتصادي.

على الجانب الآخر، يبدو موقف الولايات المتحدة أكثر استقراراً، حيث أكدت أنها ستبقي قواتها العسكرية في شرق سوريا بهدف ضمان عدم عودة تنظيم (داعش). من المتوقع أن تستخدم واشنطن هذا الوضع لتعزيز نفوذها في المنطقة، ومراقبة التحركات الروسية والإيرانية، مع التركيز على قضايا مكافحة الإرهاب والمفاوضات السياسية.

لا يقتصر تأثير هذه التحولات على القوى الكبرى فحسب، بل يمتد إلى المستوى الإنساني، حيث يتوقع أن يكون لها انعكاسات مباشرة على أزمة اللاجئين السوريين. فمع تصاعد النزاع، نزح الملايين داخلياً وخارجياً، مما جعل قضية اللاجئين أحد أبرز الملفات الدولية.

مع رحيل الأسد، يُتوقع أن تزداد الدعوات الدولية لتسهيل عودة اللاجئين، لكن هذا الأمر يتطلب توافر الضمانات الأمنية والخدمات الأساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية، مما قد يتطلب دعماً دولياً لتحقيقه. كما تبرز قضية إعادة الإعمار كأحد المحاور المهمة في المرحلة المقبلة. فبعد سنوات من الدمار، أصبحت البنية التحتية السورية في حاجة ماسة إلى إعادة الإعمار، وهو ما يفتح الباب أمام تنافس إقليمي ودولي.

تتطلع الصين وروسيا ودول الخليج إلى الاستفادة من عقود إعادة الإعمار الضخمة، حيث ترى هذه الدول في إعادة الإعمار فرصة لتعزيز حضورها الاقتصادي في المنطقة. لكن إعادة الإعمار ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل لها أبعاد سياسية، حيث قد تربط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الدعم المالي بضرورة تنفيذ إصلاحات سياسية داخل سوريا. هذا التوجه قد يضع القيادة السورية الجديدة أمام ضغوط دولية للقيام بتغييرات داخلية، كالإفراج عن المعتقلين أو السماح بقدر أكبر من المشاركة السياسية. التغييرات في سوريا قد تعيد صياغة العلاقات الدولية والإقليمية.

فبعد سقوط الأسد، قد تسعى بعض الدول، إلى تحسين علاقاتها مع سوريا الجديدة، خاصة إذا كانت القيادة الجديدة قادرة على تقديم ضمانات تتعلق بمكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار. في المقابل، قد تجد دول أخرى، نفسها في موقف ضعيف، حيث كان نفوذها في سوريا أحد أعمدة استراتيجيتها الإقليمية. في ظل هذه التحولات، يبقى الملف الأمني على رأس أولويات المجتمع الدولي. فقد كانت سوريا ساحة نشطة للجماعات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، الذي شكل تهديداً عالمياً لسنوات.

ومع التغيرات السياسية، يُخشى من فراغ أمني في بعض المناطق، مما قد يمنح هذه الجماعات فرصة لإعادة تنظيم صفوفها. وهنا يأتي دور الولايات المتحدة، التي أكدت التزامها بالبقاء في سوريا لمراقبة الأوضاع ومنع عودة التنظيمات المتطرفة. في ظل كل هذه التطورات، يبدو أن سوريا تعيش نقطة تحول استراتيجية ستترك أثراً دائماً على التوجهات العالمية. فمن تغير موازين القوى الدولية إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، وأزمة اللاجئين، وإعادة الإعمار، تظل سوريا في قلب المعادلة العالمية. ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي، بل لأنها كانت ولا تزال ساحة مفتوحة لتصارع مصالح القوى الكبرى والإقليمية.

التغيير في سوريا ليس مجرد تغيير في نظام الحكم، بل هو تحول في قواعد اللعبة الدولية. مع كل تغيير في دمشق، يُعاد رسم الخريطة السياسية، ليس فقط داخل البلاد، بل في المنطقة بأكملها. تسارع الأحداث يفرض على القوى الدولية والإقليمية إعادة تقييم استراتيجياتها، إذ بات واضحاً أن سوريا ليست مجرد دولة، بل ساحة كبرى لصياغة التوازنات الجديدة في العالم.

*لواء ركن طيار متقاعد