تستهل نانسي بيلوسي كتابها الجديد بنداءٍ تناشد فيها الساسة الأميركيين العودة إلى معايير اللياقة العامة في السياسة. وفي هذا الصدد، كتبت رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة في الفصل الأول من كتابها «فن السلطة» تقول: «إن المناخ الحالي من التهديدات والهجمات يجب أن يتوقف». وبالطبع، تتحدث بيلوسي انطلاقاً من تجربتها الشخصية، مستحضرةً حالة التعصب الحزبي الشديد التي كانت تطغى على المشهد السياسي الأميركي عشية الهجوم الذي تعرض له زوجها بُول في منزلهما في سان فرانسيسكو في 2022.

وتُرجع بدء تصاعد العدوانية إلى عهد زعيم «الجمهوريين» في مجلس النواب نيوت غينغريتش. غير أن كتاب «فن السلطة» صدر بعد أقل من شهر من عمل آخر من أعمال العنف السياسي، حين أصابت رصاصة أطلقها مسلح الأُذنَ اليمنى للرئيس السابق والرئيس المنتخَب دونالد ترامب في سبتمبر الماضي. هذان الحدثان المتوازيان، اللذان يفصل بينهما أقل من عامين، يؤكدان الوضوح الأخلاقي للنداء الذي أطلقته بيلوسي. فعقب محاولة اغتيال ترامب، أدانت بيلوسي بشكل علني وصريح «العنف السياسي من أي نوع كان».

لكنهما يكشفان أيضاً المعضلةَ التي تواجه قراء هذا الكتاب أو أي كتاب آخر عن السياسة المعاصرة، فـ«فن السلطة» كتابٌ مواكب للعصر وكتابٌ قديم عفا عليه الزمن في آن واحد، إذ تجاوزته التطورات السياسية المتسارعة التي سبقت انتخابات عام 2024. ولا شك في أن السؤال الأكثر إثارة للاهتمام حول بيلوسي، في وقتنا الحالي، هو كيف ما زالت عضو الكونجرس عن ولاية كاليفورنيا البالغة من العمر 84 عاماً تتمتع بمثل هذا التأثير والنفوذ المهيمن، بعد أكثر من عام ونصف العام على تخلّيها عن السلطة كزعيمة لـ«الديمقراطيين» في مجلس النواب، لدرجة أنها تمكنت من إقناع رئيس يصغرها بثلاث سنوات بالانسحاب من السباق على البيت الأبيض.

ولئن كان البحث عن إجابات لمثل هذه الأسئلة يمثّل مادة للبرامج الإخبارية، فإن كتاب «فن السلطة» يقدّم بالمقابل إضاءات تساعد على فهم الفعالية المستمرة لاستراتيجية بيلوسي القيادية. ففي شهر يوليو الماضي، أشارت بياناتُ استطلاعات الرأي العام وجمع التبرعات التي لطالما شكّلت العمود الفقري لنجاحها، إلى أنه إذا سعى بايدن إلى إعادة انتخابه، فإن الديمقراطيين سيواجهون الهزيمة ليس في سباق البيت الأبيض فحسب ولكن في السباقات الانتخابية المحلية أيضاً، مما سيعرّض للخطر أيَّ فرصة لديهم لاستعادة مجلس النواب، وهو المؤسسة التي تهم بيلوسي أكثر من أي شيء آخر. وقد أفادت تقارير عديدة بأن بيلوسي لعبت دوراً رئيسياً داخل الكواليس في إقناع بايدن بالتنحي. ومن الواضح أنه تم الانتهاء من هذا الكتاب قبل انسحاب الرئيس بايدن من السباق، غير أنه في مقابلة حديثة مع شبكة «سي بي إس نيوز»، قالت بيلوسي: «إنني لم أكن زعيمة لأي جهة ضاغطة. حسناً، دعني أقول لك أشياء لم أفعلها: إنني لم أتصل بشخص واحد.

لم أتصل بشخص واحد». هذه الطريقة الحذرة في التعبير هي من سمات حسابات بيلوسي المستمرة، والتي تظهر في جميع صفحات كتاب «فن السلطة». الكتاب يكشف تفاصيل جديدة حول محاولات بيلوسي التعامل مع ترامب خلال فترة رئاسته، غير أنه يمثّل نظرة عامة على أحداث رئيسية في تاريخ الولايات المتحدة لعبت بيلوسي دوراً فيها أكثر من كونه سرداً للسنوات الدراماتيكية الأخيرة. وتكتب أنه خلال الأربعة عقود تقريباً التي قضتها في الكونجرس، لم تنظر أبداً إلى دورها على أنه وسيلة لتحقيق مآرب أو مصلحة شخصية، وتعتقد أن أعضاء مجلس النواب الآخرين يثقون فيها ليقينهم بأن دفاعها عن أي موقف إنما هو مدفوع بأهداف سياسية وليس بأجندة شخصية.

ففي عام 1987، على سبيل المثال، كانت رغبة بيلوسي في تحسين حياة الأطفال ومكافحة آفة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) «الدافع الرئيسي الذي دفعني للترشح للكونجرس»، تقول بيلوسي. وفي البداية، لم تكن مهتمة بتولّي أدوار قيادية داخل مجلس النواب، إذ كتبت تقول: «ما دفعني إلى تغيير رأيي هو 4 خسارات متتالية في سنوات انتخابية من 1994 إلى 2000»، مضيفةً: «كنت أرى أن الديمقراطيين في حاجة إلى البدء في الفوز بالانتخابات من أجل بلدنا وأطفال بلدنا». والفوز هو ما حققته في العديد من الحالات، حيث كانت حريصة على ألا تعرض أي مشاريع قوانين على مجلس النواب إلا حينما تكون واثقة من أنها ستحصل على الأصوات اللازمة لتمريرها. وفي هذا الكتاب، توثّق بيلوسي الانضباط الذي أدى إلى نجاحها التشريعي بينما تتغاضى عن القضايا التي انتُقدت بسببها، من قبيل مقاومتها للإصلاحات التي كانت ستمنع الأعضاء من تداول الأسهم الفردية، مثلاً، وتصميمها على أن تظل رئيسة للمجلس حينما دعاها بعض الأعضاء الأصغر سناً إلى التنحي، معتبرين أن وسطيتها السياسية غير كافية لمواجهة يمين صاعد على نحو متزايد.

والجدير بالذكر هنا أن مقعد بيلوسي في سان فرانسيسكو كان آمناً جداً لدرجة أنها كانت تتمتع بحرية قلّما أتيحت لغيرها، وهو ما سمح لها بالانخراط في معارك تشريعية ضارية. «فن السلطة»، الذي يذكّر عنوانه بعنوان كتاب ترامب «فن الصفقة»، يدافع عن استخدام السلطة السياسية في سبيل الصالح العام. وكما يوحي عنوانه الفرعي، «قصتي كأول امرأة تتولى رئاسة مجلس النواب الأميركي»، فإن بيلوسي فخورة بمكانتها باعتبارها مصدر إلهام للشابات. ويُعتبر «فن السلطة» عموماً تتمة لكتاب بيلوسي السابق «اعرف قوتك» (2008) الذي كان أقل رسميةً وأكثر تفاؤلاً، والذي حثّت فيه النساء الشابات على أن يحذون حذوها من خلال كسر الصمت والسعي لتحقيق أحلامهن.

لغة هذا الكتاب الجديد (الذي ترفض أن تسميه مذكرات) أكثر جدية ورصانة بكثير، ما يعكس المناخ السياسي المتغير والكلفة الشخصية غير العادية التي فرضتها الحياة العامة عليها وعلى عائلتها في الآونة الأخيرة. أجل، إنها تواصل تأمّل انتصاراتها كأول امرأة تتولى منصب رئيس مجلس النواب، وسعيها تحت قبة الكونجرس إلى إقناع المشرّعين من كلا الحزبين لتأمين مرور التشريعات التي من شأنها دعم الاقتصاد في أعقاب أزمة 2008 المالية وتحويل توفير الرعاية الصحية من خلال «قانون الرعاية الصحية المتاحة» لعام 2010، وهو الإنجاز الأهم في نظرها الذي تفخر به أكثر من غيره. لكن كل ذلك يأتي مقروناً بالتحذير الآتي: «حينما أتحدثُ إلى نساء أو غيرهن ممن يفكرن في الترشح لمنصب انتخابي، أقول لهن، إن هذا القرار ليس قراراً لضعاف القلوب.. يجب أن تعرفن لماذا؟ أي لماذا تردن الترشح؟».

محمد وقيف

الكتاب: فن السلطة.. قصتي كأول امرأة في أميركا تتولى رئاسة مجلس النواب

المؤلفة: نانسي بيلوسي.

الناشر: سايمون آند شوستر تاريخ النشر: أغسطس 2024