تقع كاتدرائية «نوتردام»، التي كانت عبارة عن موقع بناء مترامي الأطراف خلال السنوات الخمس الماضية، على بعد مسافة قصيرة نسبياً من محل إقامتي، وهي مذهلة حقاً. إعادة بنائها السريعة بعد حريق مدمر، في فترة زمنية وجيزة اعتبرها الكثيرون طموحةً بشكل مستحيل، تمثِّل شهادة ودليلا ممهوراً في زجاجها الملون ونحتها وبنائها على فرنسا المتعثرة.
الكاتدرائية التي أعيد بناؤها تشكل في حد ذاتها تبايناً لافتاً ومذهلاً مع فرنسا غير القادرة على الإنجاز، جراء حكومات متخبطة تعاقبت على السلطة هذا القرن وأثارت استياء ملايين الناخبين. تناقض تلك النسخ المتنافسة من فرنسا، المحيِّرة للعديد من الفرنسيين وللأجانب على حد سواء، بلغ منتهاه هذا الأسبوع.
وبدلاً من حل تناقضات الجمهورية «القادرة على الإنجاز» والجمهورية «العاجزة عن الإنجاز»، أدى ذلك إلى تعميقها ومفاقمتها. فيوم أمس ترأس كبير أساقفة باريس إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام، حيث سيقرع الأبواب الأمامية الضخمة مع موظفيه 3 مرات بحضور آلاف المتبرعين ورجال الدين وكبار الشخصيات، بمن فيهم دونالد ترامب. وسيلقي الرئيس إيمانويل ماكرون خطاباً في الساحة الأمامية للكاتدرائية، تليه مراسم قداس في الداخل. ثم يعقب ذلك قداسٌ ديني يوم الأحد. غير أن هذه الدراما العالية سبقتها دراما منخفضة تتمثل في سقوط الحكومة الفرنسية - الموجودة في السلطة منذ أقل من 3 أشهر، وإن كانت كلمة «سلطة» مصطلحا قوياً جداً بالنسبة لكيان ضعيف جداً. فيوم الأربعاء الماضي، أُسقطت حكومة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه في تصويت بحجب الثقة قاده المتطرفون الشعبويون من اليسار واليمين؛ ونتيجة لذلك، فإن الوضع السياسي والمالي الهش أصلاً في فرنسا يمكن أن يتطور إلى أزمة كاملة، بما في ذلك فقدان مفاجئ لثقة المستثمرين في سنداتها الحكومية.
وفي هذا الإطار، قال الخبير الدستوري بنجامين موريل لصحيفة «لوموند»، إن مهمة ماكرون في تشكيل حكومة جديدة قابلة للاستمرار وسط تعطل البرلمان «تكاد تكون مهمة شبه مستحيلة». في كثير من الأحيان، أذهبُ إلى كاتدرائية «نوتردام» لأتأملها مع السياح. لقد ظلّت المَعلم الأساسي لباريس، مكاناً داوم على زيارته المتدينون وغير المتدينين حتى وسط السقالات والرافعات التي كانت تحفّها منذ حريق 2019. وفي شهر مايو، حوِّل السياج الذي أمام الكاتدرائية إلى تكريم فوتوغرافي متعدد الأعراق ومتعدد الإثنيات للحرفيين وغيرهم ممن ساهموا في إعادة بنائها - وجوه فرنسا القادرة على الإنجاز.
الصور الشخصية المعلقة باللونين منحت دور البطولة والنجومية للمئات من البنائين والنجارين والمهندسين المعماريين والقيّمين والسباكين وعمال الأسقف والكهربائيين والمؤرخين والسقالين وعمال المعدات وعمال التنظيف ومديري الموقع والإداريين ومرمِّمي المنحوتات واللوحات والزجاج الملون. وكانوا عيّنة من أكثر من ألفي عامل شاركوا في إعادة بناء الكاتدرائية. فرنسا نجحت في إنجاز عملية إعادة بناء ناهزت كلفتها مليار دولار، في الوقت المحدد وفي حدود الميزانية المحددة -وبتمويل من آلاف المتبرعين الأفراد، بعضهم من الأقلية الثرية ولكن أكثرهم أناس عاديون- وذلك على الرغم من توقفات بسبب الجائحة وخلافات حول الأثاث والتصميم وجوانب أخرى. إنه إنجاز رائع بكل المقاييس، وخاصة بالنظر إلى صعوبة تنفيذ المشاريع الكبرى في بلدان أخرى من العالم. والواقع أن الأميركيين، الذين كثيراً ما تمثِّل لهم مشاريع البناء الكبرى رمزاً للتعطل والتأخير، يفترض أن يغبطوا الفرنسيين.
فهل تتذكرون مترو أنفاق الشارع الثاني في نيويورك، والذي خُطط له قبل نحو قرن من اكتمال الجزء الأول الذي بلغ طوله 1.8 ميل في 2017، أو الجهود التي استغرقت عقداً من الزمن لنقل مقر «مكتب التحقيقات الفيدرالي» المتقادم - والذي ما زال على بعد 10 سنوات على الأقل من خط النهاية بكلفة تقدر بـ10 مليارات دولار؟ ميزة فرنسا، بالإضافة إلى الرغبة القوية في إعادة إحياء أيقونة وطنية، كانت تتمثل في وجود حكومة مركزية للغاية تحت قيادة ماكرون، الرئيس الذي راهن بسمعته على نجاح هذا المشروع. غير أن ماكرون أيضاً كان من بين أسباب غرق فرنسا في حالة من عدم اليقين السياسي الصيف الماضي بسبب سوء تقديره الفادح حين دعا إلى انتخابات مبكرة لا مبرر لها أسفرت عن برلمان متشرذم، وهو الأمر الذي حدا به إلى تشكيل ائتلاف مهلهل يعتمد بقاؤه على رضا طرف خارجي: منافسته الرئيسية مارين لوبان، زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني الشعبوي المتطرف، الذي يُعد أكبر حزب في الغرفة السفلى للبرلمان. اليوم، تقول لوبان، التي لديها مشاكلها الخاصة -إذ تحاكَم بتهمة اختلاس مزعوم، ومن شأن صدور حكم بالإدانة في حقها أن يدمّر حياتها السياسية- إنها أطلقت رصاصة الرحمة هذا الأسبوع عبر التصويت لصالح الإطاحة ببارنييه وحكومته.
والحال أن انهيار الحكومة يترك فرنسا في أزمة سياسية ودستورية ومالية بسبب الديون. وخلاصة القول أن تقسيم الشاشة بين «فرنسا القادرة على الإنجاز» و«فرنسا العاجزة عن الإنجاز» -العمال الذين نجحوا في تحقيق معجزة في «نوتردام» والسياسيين الذين أطلقوا كرة الهدم على مبنى الحكومة- يفرز جرحاً عاطفياً للفرنسيين: أسبوع من الفرح والفخر المشوب بالغضب والاشمئزاز.
* كاتب أميركي مقيم في باريس.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»