في كتاب سيرتها الذاتية، «الحرية»، تنخرط أنجيلا ميركل في ما يبدو تفسيراً وتعليلاً للقرارات المختلفة التي اتخذتها للرد على الأزمات التي واجهتها ألمانيا خلال فترة حكمها الطويلة. وإذا كان العديد من المراقبين يرون أن الصراحة والثبات صفتان ميزتا المشهد السياسي الألماني بعد شعبوية الرايخ الثالث الكارثية، فإن ميركل كانت تتمتع بشعبية كبيرة جداً حينما غادرت منصبَها، لدرجة أن حملة البحث عن خلَفٍ لها كانت بمثابة مباراة بين المرشحين من أجل العثور على مَن يستطيع محاكاة أسلوبها المتفرد.
غير أنه خلال السنوات الثلاث التي أعقبت ذلك، أدى اعتمادُ ألمانيا على دول مثل روسيا من أجل الطاقة، والصين كشريك تجاري، وعلى الولايات المتحدة من أجل الدفاع، إلى جعل البلاد في موقف ضعيف وهش. 
ومؤخراً، شرع الألمان في مراجعة حقبة ميركل وإعادة تقييمها بعين منتقدة أكثر، فشعرت المستشارة السابقة بالحاجة إلى الخروج عن صمتها والتحدث، لتعود إلى الواجهة بعد فترة طويلة من التواري، على صفحات كتاب مذكراتها «الحرية» الذي كتبته بمعية بياته باومان، التي تُعد من أقرب مساعديها منذ عام 1992. 
والواقع أن لدى ميركل أسباباً كثيرة تبرر تطلعها للانتشاء بالنجاح. فرغم أنها أنهت فترةَ ولايتها إبان الجائحة، فإنها تركت ألمانيا في حالة لا بأس بها عموماً، في وقت أخذ فيه الناتج المحلي الإجمالي يتعافى من تداعيات الجائحة، وسط شعورٍ بنجاح البلاد في الصمود في وجه حقبة مضطربة.
غير أن صعود ميركل السياسي لم يكن حتمياً ولا مضموناً، وفي كتابها «الحرية»، تبيِّن الصعوبات العديدة التي واجهتها كامرأة من ألمانيا الشرقية استطاعت، على مدى عقدين من الزمن، قيادة «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، الحزب المحسوب على يمين الوسط والذي كان يهيمن عليه تقليدياً رجال من غرب البلاد.
بيد أن أصول ميركل أيضاً كانت مسؤولة جزئياً عن نجاحها السياسي اللافت. ذلك أنها كانت تمثِّل، وأصبحت، بالنسبة لكثير من الألمان، نوعاً من الشخصية السياسية التي تشبه الخيمة الكبيرة التي تغطي آراء وتوجهات متباينة وتستوعبها، مجسِّدةً الكثيرَ من تجربة العيش في بلد مر بمراحل من التمزق. فقد وُلدت ميركل عام 1954 لقسٍّ بروتستانتي قرر شغل منصب بكنيسة في ما أصبح لاحقاً «ألمانيا الشرقية»، ونشأت في كنف عائلة جعلتها معتقداتُها الدينية محل ريبة في أعين الديكتاتورية الاشتراكية. وفي طفولتها، درجت على أن «تنفِّس عن غضبها» داخل الفضاء الآمن لمنزلها فقط، حيث كانت تعقد «جلسة حوار» مع والدتها حينما تعود إلى المنزل لتناول الغداء.
وكانت الحرية أمراً لا يمكن تصوّره، إلى أن لم تعد كذلك. وقد أفردت ميركل قسماً طويلاً من كتابها للأحداث المتسارعة وغير المتوقعة التي أعقبت نوفمبر 1989. فسقوط جدار برلين، وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها، أتاح لها حياة جديدة. وتعليقاً على هذه المرحلة، قالت ذات مرة: «لقد كنتُ أتوقع الكثير من الأشياء، ولكنني لم أكن أتوقع هدية الحرية قبل بلوغ سن التقاعد».
وبعد انهيار الشيوعية، كانت ميركل حريصة على المساهمة في بناء مجتمع جديد. فأصبحت نائبة للمتحدث باسم الحكومة الألمانية في عام 1990، ثم تدرّجت في سلسلة من المناصب الوزارية بسرعة. وفي غضون ذلك، أسقطت العديدَ من منافسيها الذكور وحتى بعض حلفائها. وعقب تفجر فضيحة تبرعات في عام 1999، نشرت رسالة أسطورية في صحيفة «فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ» ساهمت في إجبار معلِّمها السابق، المستشار الألماني السابق هيلموت كول، الذي أعاد توحيد ألمانيا، على التنحي. وهي الخطوة التي مهّدت لها الطريق نحو زعامة الحزب في عام 2000 وأكسبتها سمعةً باعتبارها «قاتلة» سياسية عديمة الرحمة. وبالطبع، تقدِّم ميركل هذه الأعمال في كتابها باعتبارها كانت منطقية وضرورية. ثم أصبحت مستشارةً حينما فاز ائتلافها بالأغلبية في عام 2005. 
حديث ميركل عن أحداث عالمية جسام حديثٌ مفيد ومنير، وإن لم يكن مقنعاً تماماً، نظراً لأن تفاؤلها يحول دون استيعابها بشكل كامل نتائج خياراتها. وفي هذا الصدد، تتمسك ميركل بصواب قرارها إغلاق كل محطات الطاقة النووية في ألمانيا في أعقاب كارثة فوكوشيما عام 2011، وإن كان بعض الخبراء يقولون الآن، إن ذلك كان خطأ. كما أنها ترفض تحمّل المسؤولية عن اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي، الذي أعاق اقتصادَها المعتمد على الصناعة. 

أما الجدل الذي تنسب إليه ميركل الفضل في تحفيزها على كتابة هذه المذكرات، فهو ما تسمّيه «الوقفة في فترة وجودي في السلطة»، وتقصد بذلك قرارها في سبتمبر 2015 السماح للاجئين الفارين من سوريا بشكل رئيسي بدخول ألمانيا (سجّلت دخول 1.1 مليون وافد في ذلك العام). وفي هذا السياق، تتأمل ميركل العبارة الشهيرة التي نطقت بها: «يمكننا أن نفعل ذلك!»، وتعبِّر عن اندهاشها لأنه أسيء فهمها وأُوِّلت على أنها تعني أن ألمانيا ستفتح أبوابَها لكل اللاجئين في العالم. 
في الانتخابات الإقليمية التي جرت في وقت سابق من هذا العام، أدت التداعيات السياسية لاستفحال أزمات المهاجرين وهشاشة الاقتصاد الألماني إلى تعزيز حظوظ اليمين المتطرف، لا سيما في الشطر الشرقي من البلاد. ومع ذلك، تعيد ميركل التأكيد في كتابها «الحرية» على مبدئها الليبرالي الأسمى، أن الاعتدال «شرطٌ مسبقٌ لنجاح الأحزاب الديمقراطية»، معبِّرةً عن التزامٍ راسخ بالقناعات التي حكمت البلاد على ضوئها: عالميةُ الكرامةِ الإنسانية، الفردية وحرمتها، ونعمةُ عالمٍ مفتوح ومترابط مبني على الرخاء المشترك.
قد تكون ميركل محقة في قناعاتها، غير أن كونها محقة لا يمثّل عزاءً لملايين الألمان الذين يواجهون المستقبل بقلق عميق اليوم ولا يبحثون عن «البهجة في قلوبنا» و«خفة الروح»، كما كتبت في خاتمة كتابها. 

محمد وقيف 

الكتاب: الحرية.. مذكرات 1954-2021
المؤلفة: أنجيلا ميركل (مع بيته باومان)
الناشر: ساينت مارتنز
تاريخ النشر: نوفمبر 2024

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»