لطالما كانت فئة الأكاديميين المتقاعدين تمثل مصدراً مهماً وغنياً للخبرات والمعرفة المتراكمة، التي تمكن الاستفادة منها كثيراً في دعم البحث العلمي وتطويره. ويتجلى ذلك بوضوح في قصص النجاح والإنجازات التي حققها كبار الأكاديميين بعد سن التقاعد. وأبرز مثال لافت للنظر في هذا السياق هو البروفيسور جون بي. جوديناف، الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2019 وهو في عمر ناهز 97 عاماً، مقدماً دليلاً حيّاً على أن العمر ليس عائقاً أمام الابتكار. وكان جوديناف أستاذاً في جامعة أوكسفورد، وكانت له إسهامات بارزة في تطوير بطاريات الليثيوم، وعندما اقترب من سن التقاعد الإلزامي انتقل في عام 1986 إلى جامعة تكساس في أوستن، حيث تابع بحوثه الرائدة بفضل سياسات الجامعة التي لا تعتمد التقاعد الإلزامي.
وتسلط هذه القصة الضوء على أهمية إيجاد سياسات مرنة تتيح للأكاديميين متابعة نشاطهم البحثي من دون قيود؛ ذلك أن الاستثمار في الأكاديميين المتقاعدين يمنح المؤسسات الأكاديمية والجمعيات العلمية مزية الاستفادة من خبرات تمتد عقوداً في مجالات متخصصة. وتمثل هذه الخبرات عامل دعم للباحثين الشباب الذين يملكون الحماسة والطاقة؛ ما يخلق توازناً ديناميكيّاً بين التجديد والخبرة.
وليس من الضروري أن تقتصر الاستفادة من الأكاديميين المتقاعدين على مجال البحث العلمي المباشر فقط؛ إذ يمكن توسيع نطاق المشاركة عن طريق وضع استراتيجيات مبتكرة، مثل تعيينهم مستشارين أو مرشدين في المشروعات البحثية والأكاديمية؛ ما يتيح لهم تقديم خبراتهم الغنية والنصائح القيّمة إلى الباحثين الجدد. كما تمكن الاستفادة منهم في الأدوار الثقافية أو البحثية بالسفارات لتعزيز التعاون الأكاديمي الدولي؛ وهو ما يعزز مكانة الدول في الساحة العلمية العالمية.
وفيما يخص المجتمع المحلي، سواء من المواطنين أو المقيمين؛ فإن هناك فرصة ذهبية للاستفادة من هذه الشريحة من الأكاديميين، كأنْ يقدموا محاضرات، أو يشاركوا في تنظيم ورش عمل ومؤتمرات؛ ما يسهم في بناء بيئة علمية خصبة وغنية بالتجارب المتنوعة. ومن الجدير بالذكر أن جمعية الباحثين التي أُشهرت أخيراً تهدف في الأساس إلى تمكين الأكاديميين المتقاعدين من استثمار طاقاتهم وخبراتهم بفاعلية تعود بالنفع على المجتمع العلمي.
وتفتح هذه المبادرات الباب أمام التفكير في كيفية إنشاء منصات تواصل تربط بين الخبرات الأكاديمية المتقاعدة والأجيال الجديدة من الباحثين. وتستطيع المؤسسات الأكاديمية تبني برامج تعاونية تتيح للمتقاعدين الإسهام في تطوير المناهج التعليمية، وإثراء البحث العلمي بالنصائح العملية التي تعتمد على تجارب حياتية حقيقية. كما يجب تعزيز برامج الزمالة البحثية الخاصة بهم؛ ما يوفر بيئة مثالية تمكنهم من متابعة بحوثهم بمرونة وحرية.
وفي الختام يبقى الاستثمار في طاقات الأكاديميين المتقاعدين رافداً غنيّاً يجب على المؤسسات والمجتمع الاستفادة منه، لضمان استدامة المعرفة، وتطوير البحث العلمي بما يتماشى مع تحديات العصر ومتطلباته.
*مستشار جمعية المهندسين الإماراتية