كانت علاقة الذّكاء الصناعي بالحكمة العملية أكثر ما أثارني في منتدى جريدة الاتحاد الـ 19، والذي رفع شعار: «الذّكاء الاصطناعي قاطرة التنمية المستدامة»، وهو المنتدى الذي صادف الذكرى 55 لصدور هذه الجريدة الغراء، والذي حضرته وشاركت في فعالياته شخصياتٌ وازنة يتقدمها معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح والتعايش.
الإشكال الذي يثيره عنوان هذه المقالة يبلور التّحدي الكبير على المستوى القيمي والإنساني الذي يرفعه هذا الذّكاء العجيب أمام الشّخصية الإنسانية المحمَّلة بالقيم وأبعادها الإنسانية المختلفة. وقد تمّ التّنبيه في المنتدى على هذه المعضلة، من خلال ما يوحي به عنوانه، وما فتئَ المحاضرون يدعون إلى التّنبيه إليها والعمل على إيجاد حلول لها. فقد حذّر معالي الشيخ نهيان، في كلمته بالمنتدى، من النتائج السّلبية التي قد تنعكس على المجال الأخلاقي جرّاء استخدام هذا الذّكاء الاصطناعي، حيث دعا إلى جعل المبادئ الأخلاقية حاكمة ومسيطرة بل ومحايثة لتقنيات هذا الذّكاء، فصرّح بمشروع مهم لوزارة التّسامح تُبرمج بموجبه القيم الإنسانية العليا، التي تؤمن بها دولة الإمارات العربية المتحدة، في عمل الأجهزة الذكية، وعدَّد المجالات التي سوف تكون محطَّ اهتمام هذا المشروع بما يضمن ترسيخاً للقيم وضماناً لأمن النّاس وحرياتهم وحقوقهم الفردية. فكان التّعبير الحازم عن عزم دولة الإمارات على توظيف الذّكاء الاصطناعي توظيفاً يُسهم في صناعة الإنسان الإيجابي، وفي تجسيد قيم العيش المشترك.
يدل الذكاء الاصطناعي على عبقرية الإنسان في الخلق والإبداع، وينبّه على حسن استفادته من التراكمات العلمية في مجالي الرياضيات والفيزياء، ويحتفل بطموحه الدائم إلى جعل حياة الإنسان أكثر رفاهية، والوصول بتعزيز المعرفة وتوليد الابتكار إلى دعم جودة الحياة، كما أبرزت ذلك الجلسة الثانية التي كانت تحت عنوان: «الذّكاء الاصطناعي التوليدي.. فُرصٌ ومخاطر».
إن الفُرصَ كثيرةٌ لجعل الذّكاء الاصطناعي رافعةً للرّقي والسّعادة، خاصة مع ربط العالم الرّقمي بالعالم المادي من خلال روبورتات الذّكاء الاصطناعي، ويكفي هذا الرّبط جمالا أنه يحمل طموحاً كبيراً يتجلى في دمقرطة السّفر إلى الفضاء. فهنا التفاؤل كبير لولا ما يسعى إليه البعض من توظيف تقنيات هذا الذكاء الاصطناعي في جعل التّدمير الإنساني، الفعلي والرمزي، أقرب إلى الناس من حبال أوردتهم، ولا يسع المقام هاهنا لتعديد السّلبيات المتعدّدة التي تترتّب على هذا المنحى الآثم، وقد أفاض الدكتور جواو ليما في القول فيها، وإنما يكفي إيراد العبارة الشهيرة التي تقول إنّ الذّكاء الاصطناعي هو سلاح ذو حدين، والحدّان معروفان، ولكل صنف من البشر حدٌّ، فأفاضل الناس والسّاعون لخير البشرية يَرُومُون الحدَّ الموجب، وأراذلُ النّاس والسّاعون في مصالحهم الضيقة يقصدون الحد السّالب، وكأننا دوماً أمام هذا التردّد الإنساني الأزلي بين مراعاة الأخلاق أو مراعاة المنفعة، أم مراعاة الربح فقط.
ترفع الإمارات تحدّياً أكبر في مجال الذكاء الصناعي، بجعل الحكمة العملية في قلب الذّكاء الاصطناعي، وهي الدّولة الرائدة في هذا المجال، من حيثُ مكانتُها المتقدِّمة في مؤشر هذا الذّكاء، وتتأكَّدُ إرادتُها، على الخصوص، في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. المصنّفة ضمن أفضل الجامعات في العالم في الذكاء الاصطناعي والرؤية الحاسوبية وتعلّم الآلة ومعالجة اللغات الطبيعية وعلم الروبوتات. وقد كان مؤتمر الاتحاد مناسبة قوية لفهم الهواجس الكبرى التي تشغل الإمارات العربية المتحدة في مجال الذّكاء الاصطناعي، كما كان المؤتمر مناسبة للتّعريف بالمسيرة الطويلة لجريدة الاتحاد أيضاً، المشروع المعرفي المعبّر عن دولة الإمارات، والسّارد لتفاصيل قصتها، والمواكب لفصول تقدّمها، والمعزّز لتفاعلها مع العالم المتحضر، بالعبارات الموحية الجميلة للرئيس التنفيذي لمركز الاتّحاد للأخبار الدكتور حمد الكعبي.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية