خصصت عمود الأسبوع الماضي لحالة عدم اليقين المحيطة بكيفية تعامل الرئيس المقبل مع الوضع المتدهور في أوكرانيا، حيث يتراجع وكيل أميركا وحليفها ببطء أمام تقدم روسيا، بينما تبدو الولايات المتحدة عالقة في فخ التزامها بتحقيق أكبر قدر من النصر وعاجزة عن التحول إلى استراتيجية للسلام.
وبوسع المرء أن يحاجج بأن الشرق الأوسط بات فجأة يطرح للولايات المتحدة الوضعَ المعاكس لذلك: فبعد الأسبوعين الأخيرين من الهجمات والاغتيالات المستهدفة، بات موقف أقرب حلفائنا يبدو فجأة أكثر أماناً، بينما يبدو أعداؤنا أضعف وأكثر هشاشة. فإسرائيل ما انفكت توجّه الضربة تلو الأخرى إلى «حزب الله» والمحور الأوسع التابع لإيران، ورد إيران يشير إلى حدود عميقة لقدراتها، وميزان القوى الإقليمي يبدو أسوأ بالنسبة لخصوم أميركا.
ولكن إذا أمعنا النظر في الأمر، فسنجد أن التدهور الاستراتيجي في أوروبا الشرقية والتحسن الاستراتيجي في الشرق الأوسط يشتركان في شيء مهم. ذلك أنه في الحالتين، وجدت الحكومة الأميركية نفسها عالقة في دور مساند، وغير قادرة على اتخاذ قرار بشأن سياسة واضحة تراعي المصلحة الذاتية، بينما تتولى قوةٌ إقليمية تعتمد علينا رسمياً تحديد جدول الأعمال.
في أوكرانيا، تسير الأمور على نحو سيئ لأن الحكومة في العاصمة كييف بالغت في تقدير قدراتها على استعادة الأراضي في الهجوم المضاد الذي شنّته العام الماضي. أما في الشرق الأوسط، فإن الأمر يسير الآن بشكل أفضل بالنسبة للمصالح الأميركية لأن الاستخبارات الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي أظهرا قدرة ملحوظة على تعطيل خصومهم وإضعافهم وتدميرهم.
غير أنه في كلتا الحالتين، لا يبدو أن الدولة الأقوى في العالم لديها سيطرة حقيقية على الوضع، أو خطة تقوم بتنفيذها، أو وسيلة واضحة لتحديد أهدافها وتحقيقها.
وكما أفادت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأسبوع الماضي، فبينما تنقل إسرائيل المعركة إلى «حزب الله»، باتت «إدارة بايدن تبدو على نحو متزايد كمتفرج له فهم واطلاع محدودان على ما يخطِّط له أقرب حلفائها في الشرق الأوسط - وتأثير أقل على قراراته».
ونظراً لأن خطوات إسرائيل كانت ناجحة، فمن السهل أن يقول أصدقاؤها إن تراجع نفوذ الولايات المتحدة أمر جيد عموماً: فالإسرائيليون يعرفون ما يفعلونه، ولهذا، أبعدوا الأعضاء القلقين في إدارة بايدن عن الطريق. غير أنه من منظور المصالح الأميركية، يمثِّل تهميشُ البيت الأبيض علامة تحذير حمراء كبيرة حتى وإن كنتَ توافق على كل خيار اتخذته حكومة بنيامين نتنياهو في الآونة الأخيرة (وبالطبع، علامة تحذير حمراء أكبر إن كنت لا توافق).
وذلك لأنه ليست هناك أي ضمانة على أن الخيارات التي تختارها إسرائيل ستستمر في النجاح: فاستعادة الردع اليوم قد تتحول إلى تجاوزات أو مستنقع غداً. وفضلاً عن ذلك، فإن أميركا لديها مسؤوليات عالمية، وليست إقليمية فقط، واتساع نطاق الحرب في الشرق الأوسط قد يكون سيئاً لموقف الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا الشرقية بغض النظر عن نتائجه بالنسبة للمشاركين المباشرين. وإذا لم تستطع الولايات المتحدة ممارسة نفوذ حقيقي على الدول التي تسلِّحها وتدعمها، فإن النظام العالمي الذي شكّلته القوة الأميركية سيصبح رهينة لمصالح كثيرة جداً غير مصالحنا.
والواقع أن السيناريوهات التي أصبحت فيها قوى عظمى رهينة لحلفائها وعملائها ليست غريبة تاريخياً. غير أنه من الصعب الهروب من الانطباع بأن صعوبات أميركا الحالية مرتبطة بمشكلةٍ محددة جداً ألا وهي: الفراغ في قلب هذه الرئاسة، والتواري البطيء للرئيس جو بايدن والصعوبات التي يواجهها في تنفيذ مهامه، وحالة عدم اليقين العامة حول من يتخذ القرارات فعلياً في السياسة الخارجية الأميركية.
وفي هذا السياق، وثّق موقع «أكسيوس» الأسبوع الماضي اختفاء بايدن من الحياة العامة، إذ أشار إلى أنه «لم يبرمج أي فعاليات عامة في 43 يوماً من أصل 75 يوماً منذ أن تخلى عن مساعيه لإعادة الانتخاب». وإذا كنتَ تعتقد أنه يتهرب فقط من المسؤوليات المرتبطة بالحملة الانتخابية بينما ينخرط بشكل كامل في السياسة الخارجية، فإنك مخطئ. إذ تشير القصة التي أوردتها الصحيفة، مثلاً، إلى أن بايدن لم يتحدث إلى نتنياهو منذ 21 أغسطس. فهل هذا مؤشر على الجفاء بينهما؟ بلا شك. ولكنه مما لا شك فيه أنه مؤشر أيضاً على أنه لم يعد لدينا رئيس بدوام كامل.
والحقيقة أنه حتى إذا اجتازت السياسة الخارجية الأميركية الأشهر الثلاثة ونصف الشهر القادمة من دون أي كوارث حقيقية، فإن مجرد التحديات التي نواجهها تؤكد أنه كان ينبغي على بايدن الاستقالة من الرئاسة حينما علّق حملته الانتخابية، لأن ذلك كان سيوضح على عاتق من تقع المسؤولية، وكان سيمنح نائبةَ الرئيس كامالا هاريس بعض المزايا السياسية بالإضافة إلى السلطة الرسمية، وكان سيمدّ الناخبين بمزيد من المعلومات، من بضعة أشهر من قيادتها، ليختاروا على أساسها من يناسبهم في انتخابات 2024.
لقد فات الأوان على ذلك الآن: فانتقال السلطة قبل أسابيع فقط من موعد الانتخابات سيكون أمراً يتسم بالفوضى وينم عن اليأس لدرجة تجعل محاولة القيام به بشكل معقول غير ممكنة. ثم أجل، فحينما ننجح ونصل إلى عملية نقل السلطة، سندرك أنه لا هاريس ولا دونالد ترامب خلفان يبعثان على الاطمئنان.
غير أن بايدن في أيامه الأخيرة يظل حالة فريدة من نوعها، نظراً لأنه لم يسبق للولايات المتحدة أبداً أن واجهت مثل هذا الكم الهائل من التحديات الاستراتيجية العالمية مع رئيس في الأيام الأخيرة من إدارته.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»