لا يمكن تجاهل الأحداث المؤلمة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط حالياً، والتي خلّفت عشرات الآلاف من الضحايا، وأحدثت دماراً هائلاً في الاقتصاد والبنية التحتية لمناطق ودول باتت إعادة بنائها تتطلب عشرات مليارات الدولارات وعقوداً من الزمن.
ولهذه الأحداث أسباب متشابهة بغض النظر عن مواقع حدوثها، حيث لم يتعلم مشعلوها من تجارب التاريخ، إذ هناك اتجاهان في المنطقة، الأول تقوده دول مجلس التعاون الخليجي، وهو اتجاه يدعو للتعاون والسلام والتنمية، والثاني تقوده دول إقليمية ترمي إلى التوسع بالقوة، علماً بأن كافة محاولات الاحتلال بعد الحرب العالمية الثانية انتهت بالفشل، ابتداءً من الحرب الكورية، مروراً بحرب فيتنام، وانتهاءً بغزو الكويت. صحيح أن هناك دولاً تفككت لأسباب مختلفة، إلا أن ذلك أمر مختلف تماماً.
النهج الخليجي أوجد دولاً ذات مستويات تنموية متقدمة للغاية، ما فتئت تمد يد العون الإنساني والتنموي لبقية الدول الأخرى، وتساهم في قيام مئات المشاريع في مختلف أنحاء العالم، كما تؤسس شركات عملاقة مثل «أرامكو» و«أدنوك» و«قطر للطاقة».. علاوة على مجمعات الألمنيوم في كل من الإمارات والبحرين، وصناعة منتجات النفط والكيماويات في الكويت، وإنتاج الهيدروجين في عُمان، ومجموعة موانئ دبي العالمية التي تدير عشرات الموانئ في القارات الخمس، بعضها في البلدان المتقدمة.. فضلاً عن الاستثمار في الطاقات البشرية وتأسيس معاهد وجامعات متخصصة في التقنيات الجديدة والذكاء الاصطناعي.
ونتيجة لذلك، اكتسبت دول المجلس احترامَ العالَم، وتسابقت الدول كافة لتقديم تسهيلات لاستقطاب الزائر الخليجي من خلال إلغاء التأشيرات، مما يشعر المسافر الخليجي بالاعتزاز بالانتماء إلى بلده.
وفي المقابل، أدت سياسات التوسع والهيمنة إلى نتائج اقتصادية وإنسانية كارثية، وإلى تشريد مواطني الدول الأخرى في بقاع الأرض، وانتهاء بعضهم غرقى في البحار والمحيطات، حيث نشهد الآن نهاية هذه الأجندات ومحاولات العودة إلى العقل والتعقل، لكن «بعد خراب البصرة» كما يقال.
النهج الخليجي التنموي يتركز اهتمامه الأساسي على التنمية الداخلية، وعلى رفع مستويات المعيشة للسكان، وعلى تنمية الاستثمارات المحلية واستغلال الفرص الاستثمارية في الخارج من خلال المشاركة والاستحواذ على شركات عالمية مهمة، بما في ذلك شركات التقنيات الحديثة، وتسخير ذلك لتدريب وتأهيل المواطنين الخليجيين وإكسابهم الخبرات المتقدمة، وكل ذلك تحضيراً لحقبة ما بعد النفط.
والنهج الآخر تدميري أدى إلى تدمير آلاف المصانع والمؤسسات الإنتاجية، وإلى تدني مستويات المعيشة وإهدار الثروات لتمويل الأجندات والإنفاق العسكري المبالغ فيه وغير المجدي، فتأخر التعليم وتسرب ملايين الأطفال من المدارس، وتحولوا إلى باعة متجولين في الشوارع، كما انهارت المؤسسات الصحية وزادت معدلات التلوث، وتردّت الخدمات الأساسية، وتراجعت البُنى التحتية.
إن الفروقات بين النهجين واضحة تماماً، وقد زادتها الأحداث الجارية وضوحاً لكل من له بصيرة، بعيداً عن التعصب والعيش في الماضي السحيق ومحاولة الرجوع إلى عصر «السيف»، في ظل التقدم التكنولوجي الهائل الذي يوفر فرصاً لدول العالم كافة كي تسخر الإمكانات الجديدة لخدمة شعوبها وشعوب البلدان الأخرى في ظل النهج الخليجي المسالم والحكيم والبعيد عن التدخل في شؤون الآخرين، مع السعي للتعاون في ظل الاحترام المتبادل.
نهجان أثبتت العقود الماضية نجاح أحدهما، وهو النهج الخليجي الذي حقق إنجازاتٍ كبيرةً، وساهمت دوله في تقديم المساعدات التنموية والإنسانية، وظلت أول مَن يَهبُّ لنجدة المتضررين، كما تفعل الآن في غزة ولبنان.. مقابل نهج آخر استثمر فقط في الصراعات والحروب، وساهم في الخراب.. فهل مِن متَّعِظ؟
نتمنى أن تسود الحكمةُ دول المنطقة كافة كي تستطيع التمتع بثرواتها واستغلال خيراتها، وإسعاد جميع مواطنيها.

*خبير ومستشار اقتصادي