تناولنا في مقال سابق سعي الدول الأعضاء في منظمة «بريكس» لتأسيس نظام نقدي خاص بها بعيداً عن هيمنة «الدولار الأميركي»، وصعوبة ذلك المسعى بسبب عوامل من أبرزها عناصر «القوة» التي تُمثلها الولايات المتحدة الأميركية على المستويات كافة، والتي يدعمها نمو اقتصادي قوي ومستمر. لكن بعض الدراسات تشير إلى أن السيناريو الأقرب لنجاح مجموعة «بريكس» في مسعاها هو انهيار النظام الاقتصادي الأميركي نتيجة استمرار تنامي حجم الدين الأميركي الحكومي، والذي بلغ مؤخراً 35 تريليون دولار، الأمر الذي يؤثر بقوة على قدرة الحكومة الأميركية على الاستجابة بفعالية لأي انكماش أو ركود اقتصادي مستقبلي. فماذا يعني هذا الأمر من وجهة النظر الأميركية؟
تنقسم الميزانية الفيدرالية الأميركية بين الإنفاق الإلزامي والإنفاق التقديري ومدفوعات الفائدة على الديون. وتوجه معظم الميزانية نحو الإنفاق الإلزامي، وهو يتكون من برامج الاستحقاق، مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، والمساعدات الطبية. بينما يتم توجيه بقية أبواب الميزانية نحو الإنفاق التقديري الذي يجب على الكونجرس أن يأذن به كل عام من خلال عملية الاعتمادات، وخدمة الديون. وخلال الأعوام القليلة الماضية، حذَّر العديدُ من الاقتصاديين والمستثمرين والمُشرعين من خطورة التنامي المستمر في مستويات الدين الوطني الأميركي الذي يتضح في العجز المرتفع في الميزانية نتيجة الإنفاق الفيدرالي الضخم. وقد أصبح الدين الوطني يعادل تقريباً حجم الاقتصاد الأميركي بأكمله، والدين في طريقه إلى التضاعف في غضون الثلاثين عاماً القادمة في ظل استمرار الإنفاق بما يتجاوز الإيرادات. وباختصار، فإن الدين الوطني الأميركي هو مبلغ المال الذي اقترضته الحكومة الفيدرالية لتغطية الرصيد المستحق من النفقات المتكبدة مع مرور الوقت. وعلى سبيل المثال، خلال سنة مالية معينة، عندما يتجاوز الإنفاق (الأموال المخصصة للطرق مثلاً) الإيرادات (الأموال المتحصل عليها من ضريبة الدخل الفيدرالية مثلاً)، فإن ذلك يتسبب في حدوث عجز في الميزانية. ولسد هذا العجز، تقترض الحكومة الفيدرالية الأموالَ عن طريق بيع الأوراق المالية القابلة للتسويق، مثل سندات الخزانة والأذون والأوراق المالية المحمية من التضخم. ولذا فإن الدَّين الوطني هو تراكم هذا الاقتراض مع الفوائد المرتبطة به المستحقة للمستثمرين الذين اشتروا هذه الأوراق المالية.
وجدير بالذكر أنه اعتباراً من أبريل 2024، أصبحت هناك خمس دول تمتلك حصصاً كبيرة من ديون الولايات المتحدة، وهي اليابان (1.1 تريليون دولار)، والصين (749.0 مليار دولار)، والمملكة المتحدة (690.2 مليار دولار)، ولوكسمبورغ (373.5 مليار دولار)، وكندا (328.7 مليار دولار).
ويتسبب تفاقم الدين الوطني الأميركي في العديد من المخاطر ذات التأثير على الاقتصادين الأميركي والدولي. فقد ذكر أحد تقارير صندوق النقد الدولي أن ارتفاع العجز والديون «يخلق خطراً متزايداً على الاقتصاد الأميركي والعالمي، ما قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف التمويل المالي». ومن جانب آخر، يقول بعض الاقتصاديين إن هناك العديد من المخاطر التي قد يتعرض لها الاقتصاد الأميركي نتيجة تفاقم مستويات الدين. وعلى سبيل المثال تتسبب أزمة الميزانية في ارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع التضخم ومعدلات البطالة، الأمر الذي من شأنه أن يقلل قيمة الأوراق المالية الحكومية ويؤدي إلى خسائر لحاملي تلك الأوراق المالية، بما في ذلك صناديق الاستثمار المشتركة وصناديق التقاعد وشركات التأمين والبنوك. وسيؤدي هذا إلى فقدان المستثمرين ثقتهم في الوضع المالي الأميركي، وإلى احتمالية ارتفاع أسعار الفائدة على الاقتراض الفيدرالي، حيث تتم المطالبة بعوائد أعلى لشراء مثل هذه الأوراق المالية. كما سيؤدي استمرار تزايد إنفاق الحكومة من ميزانيتها على تكاليف الفائدة إلى انخفاض الاستثمارين العام والخاص، والركود وانكماش النمو الاقتصادي الأميركي، وتباطؤ نمو إنتاجية العمال الأميركيين وانخفاض أجورهم وتقلُّص الفرص الاقتصادية للأميركيين. وهذا كله من المرجح أن يزيد زعزعة استقرار الاقتصاد الأميركي وتقويض الثقة في العملة الأميركية على المستوى الدولي.
فهل نشهد بالفعل مرحلة من انهيار النظام المالي الأميركي ونشوء نظام عالمي جديد تقوده مجموعة «بريكس»؟*باحث إماراتي