لعل الشيء الوحيد الذي لطالما اتفق عليه المعجبون برونالد ريجان ومنتقدوه هو أنه كان رئيساً بارزاً في التاريخ الأميركي، وكان تأثيره عميقاً ودائماً على أميركا والعالم، حتى قيل إن ريجان هيمن على الحياة السياسية الأميركية في النصف الثاني من القرن العشرين كما هيمن عليها فرانكلين روزفلت في نصفه الأول، وإن كان ذلك بالطبع بناءً على أسس أيديولوجية مختلفة تماماً. فأنصار ريجان على اليمين ينسبون إليه الفضلَ أكثر من أي شخص آخر في بعث النشاط والحيوية في الاقتصاد الأميركي، واستعادة المعنويات والقوة الوطنية، والانتصار في الحرب الباردة، وتعزيز الحرية الاقتصادية والسياسية حول العالم. وبالمقابل، ينتقده خصومه على اليسار ويصفونه بأنه كان من دعاة الحرب وبأنه كان سياسياً «غليظ القلب» لا يكترث لمعاناة الفقراء وهمومهم، متأسفين لكونه دفع بالسياسة الأميركية نحو اليمين لدرجة أن حتى «ديمقراطيين» مثل بيل كلينتون تبنوا سياسات ريجان وأيدوا رسالته المحافظة التي مفادها أن «عصر الحكومة الكبيرة قد انتهى». 
لكن ريجان غادر البيت الأبيض قبل 35 عاماً، وتأثيره لم يعد كبيراً في الحياة السياسية الأميركية. بل إن «جمهوريين» و«ديمقراطيين» على حد سواء أضحوا متشككين في عقيدته بخصوص التجارة الحرة والحكومة محدودة الحجم. فهذا دونالد ترامب، الذي حل محل ريجان في قلوب العديد من «الجمهوريين»، يرفض العديد من مبادئ سلفه وسياساته الجوهرية، بما في ذلك دعمه لتحالفات مثل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، والطريق المفضي إلى الحصول على الجنسية الذي قدّمه لـ3 ملايين مهاجر غير شرعي في عام 1986، وتعزيزه للديمقراطية وحقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة وخارجها. 
صورة ريجان التي تتبدى في الأخير بعد عملية نزع الجوانب الأسطورية التي علقت بشخصيته، وهي العملية التي انخرط فيها ماكس بوت في هذا الكتاب، هي صورة شخصية أصغر من تلك التي كان محبّوه وحتى منتقدوه يتداولونها في الماضي. وربما بدون قصد منه، كتب ماكس بوت أولَ ترجمة مهمة لحياة ريجان في حقبة ما بعد ريجان.

  • رونالد ريجان.. التركة والأسطورة

ووفقاً لرواية بوت، فإن الكثير من النجاحات المنسوبة إلى رونالد ريجان خلال فترة رئاسته لم تكن نتيجةً مباشرة لأعماله أو قراراته. فعدد من مشاريع القوانين المهمة التي تحظى بدعم كلا الحزبين مُررت خلال فترة رئاسته، مثل الإصلاح الضريبي الشامل وإعادة هيكلة وزارة الدفاع، غير أنه «لم يضطلع بدور فعال في صياغة أي منها». فصانع السياسات الاقتصادية الأهم لم يكن الرئيس وإنما بول فولكر، رئيس «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» شبه المستقل، وإن كان بوت يشيد مع ذلك بريجان لأنه أبان عن «شجاعة وحنكة كبيرتين» في دعم فولكر رغم الكلفة الاقتصادية لسياساته التي كانت تروم محاربة التضخم. وعلى أي حال، «لم يكن هناك أي شيء يثير الإعجاب أو غير عادي بشكل خاص في سجل ريجان الاقتصادي»، بالنظر إلى أن النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة رئاسته، حسب الأرقام والإحصاءات التي يستشهد بها بوت، كان يعادل تقريباً ما كان عليه الحال في عهد ريتشارد نيكسون ودون المعدلات المسجلة في عهد بيل كلينتون وجون كينيدي وليندون جونسون.
وبالطبع، فإن براغماتية ريجان هي التي سمحت له بالعمل مع الزعيم السوفييتي الإصلاحي ميخائيل غورباتشوف للمساعدة في إنهاء الحرب الباردة. لكن هنا أيضاً، يخلص بوت إلى أن مساهمة ريجان كانت أقل مما توحي به الأسطورة. فهو ينفي أن تكون زيادة الرئيس للإنفاق العسكري وسياسة المواجهة التي اتبعها خلال فترة ولايته الأولى هي التي حدت بالسوفييت للسعي وراء السلام، لا بل إن هذه الخطوات ربما كانت ستأتي بنتائج عكسية لأنها كانت ستقوي موقفَ المتشددين في الكرملين. كما أنه لم يكن هناك أي تأثير لـ«مبادرة الدفاع الاستراتيجي» أو دعوة ريجان الشهيرة في برلين إلى «هدم هذا الجدار!». فتفكك الاتحاد السوفييتي، من وجهة نظر بوت، كان يعود بالكامل إلى رفض غورباتشوف الحفاظ على تماسكه بالقوة. ولو تولى أي عضو آخر من أعضاء المكتب السياسي السلطة عام 1985، لكان «الاتحاد السوفييتي ربما ظل موجوداً إلى اليوم، ولكان جدار برلين ربما استمر قائماً». لكن بوت يشيد بريجان لكونه كان مختلفاً عن معظم الأيديولوجيين سواء على اليسار أو اليمين في استعداده «للتخلي عن العقائد التي كانت سائدة لوقت طويل حينما أصبح من الواضح أنها لم تعد تصلح لعالم متغير».
حكم بوت النهائي على ريجان مختلط. فنجاحه في مساعدة الأميركيين على استعادة ثقتهم بأنفسهم بعد صدمات السبعينيات، وخاصة دوره في استعادة الروح المعنوية العسكرية، قد يكون أهم تركة له. وقد ساعدته براغماتيته في تحقيق أكثر مما حققه معظم الرؤساء الذين كانوا يتمتعون بمواهب فكرية أكبر ودراية أوسع بالسياسة العامة.
غير أن ما يتذكره معظم الأميركيين عن ريجان اليوم هو بشاشته وتفاؤله وروح الدعابة التي كان يتمتع بها وقدرته على مخاطبة آمال الشعب ومخاوفه. ولعل استمرار شعبيته في أوساط الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء ينبع أيضاً من حقيقة أن «دعمه للهجرة والتجارة الحرة والتحالفات بات من بقايا الماضي الغريبة على غرار سلوكه المهذب، واستعداده للتوصل إلى حلول وسطى، وامتناعه عن مهاجمة الخصوم بالاسم»، كما يقول بوت. 
إن الحنين إلى ريجان إنما يؤكد أنه بات غير ذي صلة بالحياة السياسية الوحشية السائدة اليوم. غير أن الترجمة الرائعة التي كتبها بوت لحياة ريجان تذكّرنا بأن ريجان كان الزعيم الذي شعر الكثير من الأميركيين أنهم بحاجة إليه حينما كانوا يتوقون إلى الشعور بالتجديد الوطني، وقد يبحثون عن نظير له مرة أخرى.


محمد وقيف

الكتاب: ريجان.. الحياة والأسطورة

المؤلف: ماكس بوت
الناشر: ليفرايت

تاريخ النشر: سبتمبر 2024