الولايات المتحدة وفرنسا اليوم غيرهما بالأمس. اثنتان من الديمقراطيات الثلاث الأقدم والأكثر رسوخاً في العالم تتراجعان. بدأ التراجع في أميركا تدريجياً قبل أكثر من عقد. ولحقت بها فرنسا في العامين الأخيرين، وإن بمعدلاتٍ سريعة. يبدو لمن يتابعُ الانتخابات الأميركية الآن، ولمن يهتمُ بما حدث في الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة (30 يونيو و7 يوليو 2024) والجدل المستمر منذ إجرائها، كما لو أن الديمقراطيتين تتنافسان في التراجع أو تتسابقان على المركز الأول، بخلاف الديمقراطية البريطانية التي ما برحت متماسكةً في مواجهة عوامل تجريفٍ تجتاحُ النظم الموصوفةَ بأنها حرةٌ في عالم اليوم.
وانتخاباتُ مجلس العموم البريطاني في 4 يوليو الماضي شاهدةٌ ودالةٌ على ثباتٍ ديمقراطي حين نقارنُها بالانتخابات البرلمانية الفرنسية التي تزامنت معها، والانتخابات الرئاسية الأميركية التي دخلت مرحلتَها الأخيرة قبل الاقتراع في 5 نوفمبر المقبل. انتخابات أميركية يسودُها ما يُطلقُ عليه الدعايةُ السوداء أو السلبية، إذ يسعى كلٌ مِن المرشحين الاثنين الرئيسيين إلى النيل من الثاني ومحاولة تشويهه عوضاً عن الدعاية الإيجابية التي يقدم فيها برنامجه وخططه وتصورَه للقضايا التي تعني الناخبين داخلياً وخارجياً.
انتخاباتٌ تُجرى في أجواءٍ من التوتر الظاهر في خطابات كلٍّ من المرشحين وفريقه وأنصاره، والقلق من عنفٍ سياسي محتملٍ قد يعقبُها. ولا تخفى مظاهرُ هذا القلق وذاك التوتر، بل تبدو واضحةً لمتابعي الحملات الانتخابية، بسبب الأضواء المُسلطة عليها وانشغال العالَم بها أكثرَ مِن أي انتخاباتٍ أخرى. لا يَظهر تراجعُ الديمقراطية الفرنسية بمثلِ هذا الوضوح، لأن انتخاباتها تحظى باهتمامٍ أقل، رغم مركزية دور باريس في الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو».
لم يتيسر تشكيل حكومةٍ جديدةٍ لما يَقربُ مِن شهرين بعد انتخابات الصيف الماضي، حيث أُديرت شؤونُ البلاد عن طريق حكومة تسيير أعمال للمرة الأولى. فالبرلمان، الذي أسفرت عنه الانتخابات هو الأكثر استقطاباً في تاريخ الجمهورية الخامسة.. برلمان يفتقرُ إلى أغلبيةٍ مطلقة في ظل وجود ثلاث كتلٍ متنافرة. وقد لجأ الرئيس إيمانويل ماكرون أخيراً إلى تكليف ميشيل بارنييه الذي ينتمي إلى حزب أقليةٍ صغير «الجمهوريون» بتشكيل الحكومة، لأنه متوافقٌ مع المعسكر الرئاسي، وليس مرفوضاً من حزب اليمين الأقصى «التجمع الوطني».
وحكومةٌ لا تحظى بأغلبية في البرلمان هي بالضرورة غير مستقرةٍ ومعتمدةٌ على استمرار رضاء حزب اليمين الأقصى عنها، في الوقت الذي يسعى فيه التحالفُ اليساري إلى إسقاطها في أولِ فرصةٍ تلوح له. لقد استبعد ماكرون هذا التحالف لأنه أسيرُ مواقف أيديولوجية جامدة، رغم أنه حصل على أكبر عدد من المقاعد (193 مقعداً)، وكَلَّفَ سياسياً ينتمي لحزبٍ لديه 43 مقعداً فقط. ويعني هذا تعطيل القاعدة الأولى التي تقومُ عليها الديمقراطية، وهي أن الحكم للأغلبية ثم للأكثرية إذا استطاعت تكوين حكومةٍ مستقرة.
وهكذا حكومةُ أقليةٍ غير مستقرةٍ في فرنسا بالمخالفة لأهم قواعد الديمقراطية، ودعايةٌ سلبية تسودُ الانتخابات في أميركا، يبدو فعلاً كما لو أن الديمقراطيتَين تتسابقان في رحلة تراجعٍ تاريخي، وأن أسطورة أفضلية النظام الديمقراطي الغربي على غيره تتهاوى يوماً بعد يوم.