تعود الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الانعقاد في موعدها السنوي، ولا أي زعيم أو رئيس أميركي يستطيع القول هذه السنة إن العالَم أكثر أمناً. لا تزال حرب أوكرانيا تتفاعل وتقلق القارة القديمة وسائر القارات، فيما تنتقل إسرائيل من حربٍ على غزّة إلى حرب على لبنان، وانتهى الحراك الديبلوماسي على مدى شهور طويلة لمنع توسيع نطاق الحرب إلى فشل محقق. وهي النتيجة الملموسة ذاتها لمحاولات دولية وإقليمية لإيجاد ولو بداية جدّية للتفاوض على حلٍ للنزاع في السودان.
ورغم كل الجهود التي بُذلت طوال الأعوام الماضية من أجل حل تفاوضي للخلاف بين الدول الغربية وإيران على برنامجها النووي، فقد طرأ تعقيد جديد على هذا الملف مع العقوبات التي فُرضت أخيراً على طهران بعد اتهامها بنقل صواريخ باليستية إلى روسيا. وتبقى الصراعات بين الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة والصين وروسيا، بأبعادها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، مهيمنة على الوضع الدولي، مكبّلةً قرارات الأمم المتحدة وأعمالها، وبالتالي معطّلةً لأحكام القانون الدولي في مختلف أنحاء العالم.
وبسبب احتدام الخلافات بين هذه الدول وحلفائها تتباطأ وتيرة حل النزاعات الإقليمية وتُحبط كل الجهود، على افتراض أنها مخلصة. فقرارات وقف إطلاق النار حتى عندما تتخذ بشبه إجماع ومن دون أي «فيتو»، لا يمكن تنفيذها، وقوات حفظ السلام، إن وُجدت، تعاني من استفحال النزاعات وعدم وجود آفاق سياسية واضحة لوضع حدٍّ لها.
كما أن المنظمات الإنسانية والإغاثية مثل الأونروا وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية (في غزّة واليمن والسودان وغيرها) تتعرّض لهجمات ويُقتل العديد من العاملين فيها وتُمنع من القيام بواجباتها، وليس هناك مرجع آخر غير الأمم المتحدة لتنبيه العالم إلى أن 282 مليون إنسان يواجهون «الجوع الحاد» وأكثر من 120 مليوناً آخرين يعيشون في تهجير وتشرّد دائمين.
قد لا تكون هذه المرحلة استثنائية في مسيرة المنظمة الدولية، فقد شهدت عقوداً صعبة خلال فترة «الحرب الباردة» واستطاعت أن تتجاوزها لتبقى مرجعية معترفاً بها ومكاناً يلتقي فيه الخصوم ليفتحوا نوافذ دبلوماسية. غير أن المرحلة الحالية تشهد تهميشاً غير مسبوق لهذه المنظمة، ربما يُعزى إلى بحث مستمر عن «نظام دولي جديد» يطمح إليه كثيرون ويعتقدون أن إرهاصاته بدأت وأن اتضاح معالمه مسألة وقت، وسيحتاج أيضاً إلى وقت كي يصبح مقبولاً ومستقرّاً. لكن، ماذا في الأثناء؟ «حروب عالقة من دون حلول سلمية في الأفق»، كما أشار أنطونيو غوتيريش أخيراً. ومع أن هناك حروباً أخرى تتحفّز للاشتعال، فقد أكد أن العالَم قادرٌ على «تجنّب حرب عالمية ثالثة رغم انقساماته»، بل رغم التهديد بالسلاح النووي، وكذلك الاستخدام المتزايد لوسائل الحرب السيبرانية التي لم تخضع بعد لأي قانون دولي.
وتشهد الدورة الحالية للجمعية العامة انعقادَ «قمة المستقبل» وتبنّياً لميثاق خاص يتضمن تعزيز الأدوات الدولية لمواجهة تحديات القرن الـ21 وتأكيد «احترام» ميثاق الأمم المتحدة وإصلاح المؤسسات المالية الدولية، بالإضافة إلى تجديد التزام «مكافحة تغيّر المناخ» و«نزع السلاح» و«مخاطر الذكاء الاصطناعي». لكن الخبراء الذين رافقوا إعداد هذا الميثاق «من أجل المستقبل» يعترفون بأن المشكلة لم تكن يوماً في انعدام الأفكار والأدوات وإنما في الافتقار إلى الطموح والالتزام، ويشيرون مثلاً إلى التباطؤ في تطبيق قرارات قمم المناخ، وإلى التسابق الحالي نحو التسلّح، وخصوصاً إلى التلكؤ في ضبط تفلّت الذكاء الاصطناعي.
وإذ يلفتون إلى أن «المستقبل يبدأ الآن بالتعامل مع النزاعات، وبعضٌ منها مزمن، وليس باستغلالها»، فإنهم يستخلصون أن غياب إرادة وتوافق دوليين يجعل أجندات المستقبل مجرد أدبيات سياسية لا فاعلية لها.
*كاتب ومحلل سياسي - لندن